محورية القرآن عند القرآنيين محمد شحرور نموذجاً

مقدمة:
يعتبر القرآن الكريم المصدر الإلهي الهادي إلى سبيل الرشاد، لدى جميع المسلمين، وهو خاتمة الكتب الإلهية ﴿مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾() ﴿وَهُدَىً وَبُشْرى للمُؤمنين﴾(). وما من مسلم إلا ويعتقد أن الله تعالى خص هذه الأمة بكتاب: ﴿لا يَأْتيهِ‏ الْباطِلُ‏ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَمَيد﴾(). فهو «مرجع اللغوي، ودليل النحوي، وحجة الفقيه، ومثل الأديب، وضالة الحكيم، ومرشد الواعظ، وهدف الخلقي، وعنه تؤخذ علوم الاجتماع والسياسة المدنية، وعليه تؤسس علوم الدين، ومن إرشاداته تكتشف أسرار الكون، ونواميس التكوين. والقرآن هو المعجزة الخالدة للدين الخالد، والنظام السامي الرفيع للشريعة السامية الرفيعة»().


ولا كلام لمسلمٍ في ذلك، إنما الكلام في السبيل إلى فهم القرآن الكريم، والأدوات التي نستطيع من خلالها التوصل إلى المراد، بحيث يمكن وضع الخطوط العامة والتفصيلية للمنظومة التشريعية. فلو أرسلنا نظرة خاطفة للعلاقة بين القرآن الكريم وواقع التشريع، لرأينا أن الواقع التشريعي أوسع بكثير، وأكثر تفصيلاً مما في القرآن الكريم، سواء من حيث الموضوعات أو الأحكام، فالعبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات لم تذكر تفاصيلها في القرآن الكريم، والمفترض أن الرسالة الإسلامية هي خاتمة الرسالات، فلا بد أن تغطي حاجة البشرية جمعاء في شتى الموضوعات الكلية والجزئية. فهل نكتفي بالقرآن بمفرده مشرِّعاً؟ وكيف يمكن من خلال ذلك تأمين وتلبية الحاجات الفعلية للمكلف المسلم فرداً أو مجتمعاً؟ وما هي الوسائل التي نعتمدها في فهم القرآن؟
هذه التساؤلات كانت ولا تزال تُطرح، ومن هذا المنطلق نشأت الكثير من التوجهات والرؤى في هذا الشأن، أبرزها وأشهرها حاجتنا إلى السنة في فهم القرآن الكريم، بالإضافة إلى الأدوات والوسائل ذات العلاقة بالفهم، كعلوم اللغة والعلوم العقلية وغيرها.
ولكن، ظهرت عبر التاريخ دعوات أخرى تبنت الاكتفاء بالقرآن الكريم حصراً، دون الحاجة إلى السنة، بل دون الحاجة إلى العلوم الأخرى.
ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن هذا التوجه كان في زمن النبي (ص) وله ارتباط وثيق بالموقف العقدي من النبي (ص) وهل أن كلامه حجة أو أننا ملزمون بالقرآن فقط؟ وقد سئل في حياته بعض الأسئلة التي تشير إلى وجود هذا التوجه.
إلا أن ظهور هذا المنهج بشكل فعلي ورسوخه وانتشاره بشكل واسع كان في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين في شبه القارة الهندية. وهو ما نتناوله لاحقاً بعد بيان مهم للمقصود بالرجوع للقرآن الكريم.
كما ظهر في البلدان العربية لاحقاً، وأصبح له روّاد وأعلام، كان لهم الأثر الكبير في ترويجه ونشره، وأحد هؤلاء الدكتور محمد شحرور من سوريا، الذي كتب مجموعة من الكتب، أبرزها: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، الذي انتشر بشكل واسع في الأوساط العربية، وكان له صدىً في أوساط الحداثويين العرب، بل تسربت بعض أفكاره حتى إلى داخل أروقة البحوث والدراسات القرآنية في المدارس الدينية والحوزات العلمية في العالم العربي، مع أن صاحبه لم يكن متخصصاً بالدراسات القرآنية ولا اللغوية.
وسوف نتناول فيما يلي نبذة تاريخية مختصرة تبين الأسس والجذور والمراحل التي مر بها هذا المنهج، ثم المقصود من هذا المنهج، ثم أبرز معالمه، ثم نتناول نموذجاً تفسيرياً لآيات الحجاب من الكتاب المذكور للدكتور محمد شحرور.
والحمد لله رب العالمين.

القرآنيون: نبذة تاريخية:
كانت أصل الانطلاقة في هذا المنهج من مقولات متفرقة كما ذكرنا، وهنالك الكثير من الشواهد التي تؤكد أن هذا الحسّ والتوجه كان موجوداً حتى في زمن الصحابة والتابعين، بل قبل ذلك في زمن النبي (ص).
فمن ذلك ما روي عن الحرث بن النعمان الفهري «أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: من كنت مولاه فعلي مولاه، ركب ناقته فجاء حتى أناخ ]راحلته بالأبطح ثم قال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك[ () رسول الله, فقبلناه منك, وأن نصلي خمساً, ونزكي أموالنا, فقبلناه منك, وأن نصوم شهر رمضان في كل عام, فقبلناه منك, وأن نحج, فقبلناه منك, ثم لم ترض بهذا, حتى فضّلت ابن عمك علينا, أفهذا شيء منك أم من الله؟ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والله الذي لا إله إلا هو, ما هو إلا من الله، فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً , فأمطر علينا حجارة من السماء, أو ائتنا بعذاب أليم, فوالله ما وصل إلى ناقته, حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه, فخرج من دبره فقتله, فنزلت { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذابِ وَاقِعٍ}»().
ولعل أقدم مقولة علنية صريحة في هذا الصدد، ما جاء في الصحيحين عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب من قوله: «حسبنا كتاب الله». ثم ما جرى بعد رحيل النبي المصطفى (ص) من المنع من التحديث وتدوين السنة، ثم تطور الأمر ليصل إلى الخوارج في أيام خلافة أمير المؤمنين (ع) عندما رفعوا شعار «لا حكم إلا لله».
وروي عن عمران بن حصين أنه كان جالساً ومعه أصحابه يحدثهم، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن. قال: فقال له: ادنه فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعاً وصلاة العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً والطواف بالصفا والمروة؟ ثم قال: أي قوم، خذوا عنا، فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضِلُّنَّ»().
ونجد في مروياتنا كذلك بعض التساؤلات التي أثارها المخالفون لنظرية الإمامة في أيام الأئمة عليهم السلام، يمكن اعتبارها مؤشراً على هذا التوجه.
فمن ذلك ما ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه سئل: «إن الناس يقولون فما له لم يسم علياً وأهل بيته (ع) في كتاب الله عز وجل؟ قال: فقال: قولوا لهم: إن رسول الله (ص) نزلت عليه الصلاة ولم‏ يُسمِّ‏ الله‏ لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتى كان رسول الله (ص) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزلت عليه الزكاة، ولم يُسمِّ لهم من كل أربعين درهماً درهمٌ، حتى كان رسول الله (ص) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزل الحج، فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعاً، حتى كان رسول الله (ص) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزلت:‏ ﴿أَطيعُوا اللَّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُولَ‏ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم‏﴾()‏ ونزلت في علي والحسن والحسين، فقال رسول الله (ص) في علي: من كنت مولاه فعلي مولاه‏…»().
لكن هذا المنهج تبلور بشكل واضح في شبه القارة الهندية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ثم انتقل إلى مصر والوطن العربي()، وتبناه العديد من الكتاب والباحثين. فقد تزعم حركة القرآنيين في بداية الأمر شخصان، هما: محبُّ الحق عظيم آبادي في مدينة بهار شرقي الهند، وعبد الله جَكْرَالَوِي في لاهور، الذي قام بتتشكيل جماعة أسماها «أهل الذكر والقرآن». ويرى بعض الباحثين أن البداية كانت قبل ذلك على يد أحمد خان المتوفى سنة 1897 م. فهو الذي بذر بذرة التوجه نحو القرآن فقط دون السنة النبوية. وكان من أعلام هذا المنهج آنذاك بالإضافة إلى محب الحق عظيم آبادي (توفي في أواخر الخمسينات )، وعبد الله الجكرالوي المتوفى سنة 1914 م، كلٌّ من: أحمد الدين الأمْرَتْسَرِّي المتوفى عام 1936 م، والحافظ أسلم جِرَاجْبُوري المتوفى سنة 1955م ، وغلام أحمد برويز المتوفى سنة 1985م، وغيرهم.
أما في البلاد العربية فقد انتشر هذا المنهج في وقت مقارب لما حصل في شبه القارة الهندية، وإن كان متأخراً عنه زمنياً بعض الشيء. فمن أعلامه في مصر(): محمد توفيق صدقي، إسماعيل أدهم، د. أحمد زكي أبو شادي، محمد أبو زيد الدمنهوي()، رشاد خليفة، الدكتور إسماعيل منصور، د. أحمد صبحي منصور. ويعتبر هذا الأخير الزعيم الروحي للقرآنيين في مصر والعالم العربي(). أما في سوريا فبرز اسم المهندس الدكتور محمد شحرور، وسامر إسلامبولي، ونيازي عز الدين، وغيرهم.
وأبرز من خاض في التفسير من هؤلاء: محمد أبو زيد الدمنهوري صاحب تفسير الهداية والعرفان، ومصطفى كمال المهدوي، صاحب تفسير البيان بالقرآن، ومحمد شحرور، صاحب كتاب: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، وغيره من الكتب. وسوف نقتصر في بحثنا هذا على نموذج واحد من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
مفهوم محورية القرآن في نظر القرآنيين :
يمكن أن نتصور مقولة «محورية القرآن» بشكل عام بثلاث تصورات، تشترك جميعاً في كون القرآن هو المحور:
الأول: أن المقصود بمحورية القرآن أنه المصدر الأول في التشريع، وهو المحور الذي تدور عليه رحى البحث في الاستنباط، لكننا لا نستغني عن السنة في فهمه، وتخصيص عمومه، وتفصيل مجمله، فهو والسنة شيء واحد من جهة الحجّية، وكلاهما بلّغه النبي (ص) وإنْ تقدم عليها رتبةً باعتبارات كثيرة، من أمثال عدم حاجته للإثبات وغير ذلك. وهذا التصور يمكن أن يسمى أيضاً: محورية القرآن والسنة، في مقابل من يقول بمحورية القرآن وحده، وهو غير داخل في بحثنا هذا، الذي يتناول محورية القرآن عند القرآنيين.
الثاني: أن المقصود بمحورية القرآن، أنه الأصل في التشريع أيضاً، ولكن ما عداه من السنة أمر ثانوي لسنا بحاجة إليه إلا في حدود ضيقة، وإن كان حجة. وأنّ النبي (ص) بلغ السنة كما بلغ القرآن، لكن السنة شابها الكثير من الوضع والدس والتزوير، ولذلك نلجأ إليها من باب الضرورة أحياناً. فالقرآن هو المحور الأول والأخير، ومنه نستنبط الأحكام الشرعية والمواعظ والإرشادات والقيم الأخلاقية والنظم الاجتماعية والسياسية وغيرها، ولكن مع عدم المنع من اللجوء إلى السنة في حال الضرورة والانحصار.
وهذا أيضاً لا دخل له بموضوع البحث أيضاً، إنما يمكن أن يسمى أصحابُه بالقرآنيين بالمعنى الأعم.
الثالث: أن القرآن الكريم هو المحور والأصل والأساس في التشريع، لكنه محور حصري، ولسنا بحاجة إلى غيره مطلقاً، إنما نتعامل معه بشكل مباشر، منه نبدأ، وإليه ننتهي، فلا نخرج منه إلى غيره، وأنه كافٍ ووافٍ بكل ما نحتاج إليه من علوم الشريعة. وأن النبي (ص) لم يبلّغ سوى القرآن الكريم، وما روي عنه من سنة ليست بحجّة وليس لها اعتبار، لأنه لم يكن مكلفاً إلا بتبليغ القرآن الكريم.
وبحثنا هذا يتناول التصور الثالث، الذي شاع وانتشر بين من دُعوا بالقرآنيين في القرنين الأخيرين، العشرين والحادي والعشرين الميلاديين.
أبرز معالم منهج القرآنيين:
من الصعوبة بمكان تشخيص منهج متكامل متفق عليه بين القرآنيين سوى العنوان العام، وهو ضرورة الانطلاق من القرآن إلى القرآن لفهمه في حدوده انطلاقاً من النص نفسه، دون تحكيم العناصر الأخرى الخارجية لا سيما السنة.
ولكن من خلال مراجعة ما نتج وترشح عن أقلامهم، أو من خلال ما ذكروه نظرياً، يمكن ذكر بعض المعالم والأسس التي يرتكزون عليها، وأهمها أمران:
1 ـ اعتماد العقل: يقول محمد شحرور في بيان منهجه المتبع في كتابه المذكور: «العلاقة بين الوعي والوجود المادي هي المسألة الأساسية في الفلسفة، وقد انطلقنا في تحديد تلك العلاقة من أن مصدر المعرفة الإنسانية هو العالم المادي خارج الذات الإنسانية»().
ويقول أيضاً: «الكون مادي، والعقل الإنساني قادر على إدراكه ومعرفته، ولا توجد حدود يتوقف العقل عندها… ولا يعترف العلم بوجود عالم غير مادي يعجز العقل عن إدراكه»(). ويقول: «لا يوجد تناقض بين ما جاء في القرآن وبين الفلسفة التي هي أمُّ العلوم، وتنحصر بفئة الراسخين في العلم مهمة تأويل القرآن طبقاً لما أدى إليه البرهان العلمي، وذلك وفق قانون التأويل في اللسان العربي الذي شرحناه بشكل مستفيض في الباب الأول من هذا الكتاب، وفي ضوء أحدث المنجزات العلمية»().
2 ـ اللغة: وهذا ما بينه شحرور في الباب الأول من كتابه: الكتاب والقرآن، ، وما طبّقه عملياً في كتابه كله، وفي المورد الذي تناولناه بالخصوص كما سيأتي.
نبذة عن حياة المهندس محمد شحرور:
هو محمد ديب شحرور() ، ولد في دمشق عام 1938 م وأكمل مراحل دراستة حتى الثانوية، ثم سافر في بعثة حكومية إلى الاتحاد السوفيتي السابق سنة 1958م، لدراسة الهندسة المدنية في موسكو، وحاز على شهادة الدبلوم في الهندسة عام 1964م. ثم أوفدته جامعة دمشق إلى الجامعة القومية الإيرلندية في دبلن، لتحضير الماجستير والدكتوراه في الهندسة المدنية، وبعد إكماله المهمة عُيِّن مدرساً في كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق عام 1972م. وهو يتقن اللغتين الروسية والانجليزية.
من أبرز مؤلفاته: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، دراسات إسلامية معاصرة، نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، القصص القرآني قراءة معاصرة.
ومن خلال سيرته العلمية يتبين أنه لم يتّلق أي تعليم ديني في أي مدرسة دينية، بل وحتى تعليماً لغوياً تخصّصياً، ويبدو من خلال بعض كلامه أنه اطلع على اللغة والفلسفة، وكانت له اهتمامات عامة بهما. يقول في مقدمة كتابه المذكور، في حديثه عن زميله جعفر دك الباب: «ولكنه في عام 1980 لاحظ من خلال أحاديثه معي أنني مهتم بأمور اللغة والفلسفة وفهم القرآن»(). ومع أنه ذكر في المقدمة أو ثنايا الكتاب بعض الإشارات الفلسفية، إلا أننا لم نلحظ أنه درس الفلسفة واللغة واللسانيات بعمق، إنما هي اهتمامات عامة ليس إلا، بل قاصرة بشكل كبير لا سيما في مجال اللغة.
نموذج من تفاسير شحرور:
سوف نستعرض نموذجاً تفسيرياً محدداً من كتاب المهندس محمد شحرور، ثم نبين المنهجية التي استخدمها في ذلك، ثم ننتقل للمناقشة والنقد، وهذا النموذج هو تفسيره لآيات الحجاب في القرآن الكريم.
لباس المرأة والرجل وسلوكهما الاجتماعي:
تناول شحرور تحت هذا العنوان مجموعة من العناوين ذات العلاقة بالحجاب، انطلاقاً من آيتين في سورة النور، حصر فيهما الرؤية القرآنية بخصوص «الحجاب والسلوك الاجتماعي» كما أسماه، وهاتان الآيتان هما قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى‏ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما يَصْنَعُون‏﴾(). والأخرى هي الآية التالية من السورة ذاتها، وهي قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ‏ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَني‏ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَني‏ أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى‏ عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفينَ مِنْ زينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَميعاً أَيُّهَا المؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾().
وسوف ننتخب بعض العناوين المهمة التي سلط شحرور الضوء عليها، طبقاً لمنهجه في التفسير، والنتائج التي انتهى إليها، وهي:
1 ـ لباس كل من الرجل والمرأة:
فقد قرر أن «الحد الأدنى من اللباس للرجل هو تغطية الفرج فقط»()، أما المرأة فتركه إلى محل آخر يأتي لاحقاً.
2 ـ زينة المرأة:
قسم الزينة عموماً إلى ثلاثة أنواع: زينة الأشياء، كالديكورات وتسريحة الشعر للرجل والمرأة والحُليّ() والمكياج للنساء. وزينة الأماكن والمواقع: كالحدائق العامة في المدن، والزينة المكانية والشيئية، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ‏ الَّتي‏ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾().
كما قسم زينة المرأة إلى قسمين(): الزينة الظاهرة والزينة المخفية، واعتبر أن جسد المرأة كله زينة، وليس المكياج والحلي وما شابه ذلك، وأن هذه الزينة (جسد المرأة بالكامل) ينقسم إلى قسمين:
الأول: ظاهر بالخلق، وهو جسد المرأة كلُّه إلا بعضَ المستثنيات التي سوف نبينها. قال: «فالزينة الظاهرة هي ما ظهر من جسد المرأة بالخلق، أي ما أظهره الله سبحانه وتعالى في خلقها، كالرأس والبطن والظهر والرجلين واليدين، ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الرجل والمرأة عراةً دون ملابس»().
الثاني: غير ظاهر بالخلق: «أي أخفاه الله في بنية المرأة وتصميمها»(). وهذا القسم المخفي هو الجيوب.
ثم بين معنى الجيب بقوله: «والجيب جاء من «جاب» كقولنا: جُبتُ القميص، أي قورت جيبه وجيَّبتُه، أي جعلت له جيباً، والجيب كما نعلم هو فتحة لها طبقتان لا طبقة واحدة، لأن الأساس في جيب هو فعل «جوب» في اللسان العربي، له أصل واحد وهو الخرق في الشيء، ومراجعة الكلام()!، «السؤال والجواب». فالجيوب في المرأة لها طبقتان، أو طبقتان مع خرق، وهي: ما بين الثديين، وتحت الثديين، وتحت الإبطين، والفرج، والإليتين، هذه كلها جيوب، فهذه الجيوب يجب على المرأة المؤمنة أن تغطيها لذا قال: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَّ ﴾.
والخمار جاءت من «خمر» وهو الغطاء، والخمر سميت خمراً لأنها تغطي العقل، وليس الخمار هو خمار الرأس فقط، وإنما هو أي غطاء للرأس وغير الرأس. لذا أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنات بتغطية الجيوب التي هي الزينة المخفية خَلقاً، وسمح لهنّ بإبداء هذه الجيوب بقوله: ﴿ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ﴾ هذا الإبداء لا يكون إلا لشيء مخفي أصلاً»().
ثم فسر قوله تعالى: ﴿وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ الآية، بأن هذه الجيوب ـ وهي الزينة المخفية في نظره ـ يجوز إبداؤها لمن ذكرتهم الآية الشريفة، فيجوز للمرأة إبداء حتى الفرج للزوج والأب ووالد الزوج والابن وابن الزوج … إلخ().
وذكر أن معنى إبداء الزينة هو إظهارها بعد خفاء، فالإبداء في نظره «لا يكون إلا لشيء مخفي أصلاً».
ثم تفطن شحرور إلى أن هذه النتيجة لا يمكن أن تنسجم مع الطبائع البشرية، وأنه أمر نشاز تمجّه الطبيعة البشرية، فأثار سؤالاً وأجاب عنه بقوله:
«قد يقول البعض: هذا يعني أن المرأة المؤمنة يحق لها أن تظهر عارية تماماً أمام هؤلاء المذكورين أعلاه، والمذكورين في نص الآية. أقول: نعم، يجوز إن حصل ذلك عرضاً، وإذا أرادوا أن يمنعوها فالمنع من باب العيب والحياء «العرف» وليس من باب الحرام والحلال لأنه شملهم مع الزوج»().
ويستمر في البيان حتى ينتهي إلى القول: «وهكذا أخطأ الفقهاء حين اعتبروا أن الزينة المذكورة في الآية هي زينة الأشياء، وإنما هي زينة المواقع»().
وقد قرر في بيانه هذا بعد ذلك أنْ لا يفهم من كلامه أنه يدعو المرأة أن تجلس عارية أمام الثمانية المذكورين في الآية، ولكن إذا حصل ذلك عرضاً فلا يوجد حرام، ولكن تلبس أمامهم من باب العيب والحرج لا من باب الحرام(). إلا أنه صرح قبل ذلك بعدم الفرق في إظهار الزينة المخفية بين الظهور عن قصد أو غير قصد().
3 ـ عمل المرأة:
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفينَ مِنْ زينَتِهِنَّ﴾ ذهب إلى أن الضرب هنا بمعنى العمل والسعي، وأن المحرَّم على المرأة المؤمنة هو ممارسة العمل الذي من شأنه إظهار الجيوب (الزينة المخفية)، ومن ذلك ما أسماه «ستربتيز Striptease»، أي العرض العاري، أو الرقص الذي يُظهر بعض الجيوب، «ولكنه لم يحرم الرقص بشكل مطلق، إنما حرم عليها إظهار الجيوب أو بعضها، بشكل إرادي، وهذا لا يحصل إلا من أجل كسب المال أو على شواطئ البحر. من هنا نرى أن الله سبحانه وتعالى حرم في حدوده مهنتين فقط على المرأة، وهما: أـ التعرية «ستربتيز» ب ـ البغاء. أما بقية المهن فيمكن للمرأة أن تمارسها دون حرج أو خوف وذلك حسب الظروف الاجتماعية التاريخية والجغرافية»().
وانتهى إلى نتيجة مفادها: «أن لباس معظم نساء أهل الأرض يقع بين حدود الله ورسوله وهذه هي فطرة الناس في اللباس»().
وأما عن قوله تعالى: ﴿يُدْنِيْنَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيْبِهِنَّ﴾() فرأى أنه للتعليم لا للتشريع، أي أن المرأة ليست ملزمة بما جاء في هذه الآية على نحو الوجوب والفرض().
4 ـ معنى الخمار:
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَّ ﴾ قال شحرور: «والخمار جاءت من خمر، وهو الغطاء… وليس الخمار هو خمار الرأس فقط، وإنما هو أيُّ غطاء، للرأس وغير الرأس، لذا أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنات بتغطية الجيوب التي هي الزينة المخفية خلقاً، وسمح لهن بإبداء هذه الجيوب بقوله: ﴿وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ﴾»().
ولكنه عاد بعد ذلك ليقول: «الرجال والنساء العرب كانوا يلبسون الزي القومي حسب الأعراف السائدة في مجتمعهم، وحسب المستوى الإنتاجي للألبسة… وكذلك كان لباس المرأة العربية هو لباس حسب أعراف العرب ومناخ شبه جزيرة العرب، فكانت تلبس ثوباً طويلاً، وتضع خماراً على رأسها ليقيها الحر. كلباس نساء البادية الآن، فعندما نزلت الآية 31 من سورة النور، نظرت المرأة العربية المسلمة إلى لباسها الذي ترتديه فعلاً ولم تغير منه شيئاً، وإنما وجدت إمكانية إظهار جيوب الثديين من فتحة الصدر في ثوبها الخارجي، فضربت على صدرها بخمار رأسها، لأن بقية الجيوب أصلاً كانت مغطاة بزيها القومي»().

المناقشة:
بعد هذا العرض للأدلة والنتائج التي توصل إليها شحرور، نقف عند بعض القضايا الكلية التي أدت به إلى تلك النتائج الغريبة التي لا تتناسب مع الفطرة الإنسانية السوية، ولا مع العفة، ولا مع روح الإسلام ومنهجه في تربية النفوس داخلياً، وضبط السلوك خارجياً.
وسوف نجعل المناقشة في النقاط التالية:
1 ـ أزمة التوثيق:
لم نجد في كتابه سوى دعاوى غير موثقة علمياً، وكل ما جاء به هو الاسترسال في الكتابة الإنشائية، لا سيما في الموضوع المذكور، إذ لم يرد فيه هامش واحد، من أوله حتى آخره. وبذلك تكون دعاواه ونتائجُه ساقطةً علمياً من أساسها، أضف إلى ذلك أننا سوف نبين مدى بُعدها عن ذات المنهج الذي اعتمده.
2 ـ تخطئة الفقهاء:
انتقد شحرور الفقهاء وخطّأهم بكونهم فهموا الآيات بخلاف فهمه، مع أن منهج الفقهاء يختلف عن منهجه، ولا يمكن محاكمة باحث أو مفكر إلا طبقاً لمنهجه الذي يتبناه، وإلا لصحّ للفقهاء أيضاً أن يحاكموه ويخطِّئوه، لأنه أهمل السنة والإجماع والسيرة وغيرها مما يعتمده الفقهاء منهجاً في الفهم والاستنباط.
فلا يمكن تخطئة الفقيه إلا في أمرين: إما في مناقشة المبنى الذي اعتمده، وبيان بطلانه، أو بعدم مطابقة النتيجة لمبناه، بحيث يُلزَم بمخالفة مبناه. أما التخطئة طبقاً لما يتبناه الناقد فهو إلزام بغير لازم.
ولا يفهم من كلامنا أن الفقهاء معصومون من الخطأ، إنما هو نقد منهجي لا علاقة له بالنتائج.
3 ـ الزينة في اللغة:
بما أن شحرور يعتمد بشكل أساسي على التفسير اللغوي، خصوصاً رجوعه إلى معجم مقاييس اللغة، دون إغفال بقية المعاجم، كما ذكر في مقدمة الكتاب()، إلا أننا نجد أنه لم يطبق هذا المنهج، بل ابتعد كثيراً عنه وجاء بما هو مخالف للّغة واستعمالات العرب للفظ.
فلو عدنا إلى معنى الزينة لم نجد في معاجم اللغة ما يؤيّد ما ذهب إليه من أن المقصود بها هنا الزينة المكانية، بل لا معنى للتقسيم الذي ذكره كما سيأتي.
فقد ورد في معجم مقاييس اللغة: «الزاء والياء والنون: أصلٌ يدلُّ على حسن الشيء وتحسينه، فالزين نقيض الشين. يقال: زيَّنتُ الشيءَ تزييناً. وأزْيَنَتِ الأرضُ، وازّينَتْ، وازدانت: إذا حَسَّنَها عُشبُها»(). وسمي عُرف الديك بالزَّين، لأنه يظهره بمظهر حسن.
وقال الفراهيدي: «والزينة جامعٌ لكل ما يُتَزين به»().
ويلاحظ هنا أن الفعل «زان» فعل متعدٍّ بنفسه، فيقال: «زانه الحسنُ، يَزِينُه زَيْناً»() .
ويقال: زانه الأدبُ، وزانها القرطُ، أي جعله حَسناً، وجعلها حسناء. وسُمّي العيد بيوم الزينة «لأنّ الناس يتزينون فيه بالملابس الفاخرة»().
ويقال: كُنْ زَيناً، ولا تكن شيناً: أي ذو زين.
«قال الأزهري: سمعت صبياً من بني عقيل يقول لآخر: وجهي‏ زَينٌ‏ ووجهك شين، أراد أنه صبيح الوجه، وأن الآخر قبيحه، والتقدير: وجهي ذو زين‏ ووجهك ذو شين، فنعتهما بالمصدر كما يقال: رجل صوم وعدل»().
ويقال في العربية: «غَنِيت بجمالها عن الزينة»(). أي أنها لشدة حُسنها وجمالها لا تحتاج إلى الزينة، بمعنى أن الزينة هنا أمرٌ زائدٌ عن الذات أو مضاف إليها، وليس الذات. وإلا فلا يصح القول: استغنت المرأةُ بجمالها عن نفسها. وسميت الجارية غانية «لاستغنائها بجمالها عن الزينة»().
وفي ترتيب حسن المرأة وجمالها، أورد الثعالبي مراتب تبين أن الزينة إذا استُعملت في المرأة أفادت أمراً زائداً عن الذات أو مضافاً إليها، وليس الحسن الخلقي المتمثل بالذات كما توهم شحرور، واعتبر جسد المرأة كله زينة .
قال الثعالبي: «عن الأئمة: إذا كانت المرأة حسنة الخلق، فهي: جميلة ووضيئة. فإذا أشبه بعضُها بعضاً في الحسن، فهي: حُسَّانة. فإذا استغنت بجمالها عن الزينة، فهي: غانية. فإذا كانت لا تبالي ألا تلبس ثوباً حسناً ولا تتقلد قلادة فاخرة فهي: مِعطَال…»().
«ويقال: حَدّتْ المرأة على بعلها، وأحدّت: وذلك إذا منعت نفسها الزينة والخضاب»().
كما نجد في معاجم اللغة أن الزخرف هو الزينة، ومنه سمي الذهب زخرفاً، فقيل: بيت مزخرف.
وقد ميز العرب بين المرأة المتزينة وغيرها بقولهم: هذه امرأة عاطل، أي بلا زينة.
وخلاصة ما في كتب اللغة أن الزينة وإن كانت تستعمل في الحسن عموماً، وأنها اسم جامع لكل ما يُتزيَّن به، إلا أنها إذا استعملت في خصوص المرأة فيقصد بها ما يزيّن المرأة، من الخضاب والكحل ولبس الذهب والحليّ وغير ذلك مما هو معروف في تزيين المرأة قديماً وحديثاً. أما ما ذكره من أن الزينة تعني جسد المرأة كله فلا عين له وأثراً في معاجم اللغة ولا استعمالات العرب.
4 ـ الزينة في الاستعمالات القرآنية:
أما في الاستعمالات القرآنية فالأمر أوضح وأقرب بكثير لما ذكرناه من أنه يعني زينة المرأة المتعارفة.
قال تعالى: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُوْلى﴾() وقال: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِيْنَةٍ﴾(). قال أهل اللغة: «التبرج: إظهار المرأة محاسنها»(). وقالوا: «التبرج: إظهار الزينة وما يُستدعى به شهوة الرجال»().
ويلاحظ في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُوْلى﴾ ليس المقصود النهي عن التعرّي، فهذا ليس معروفاً في حضارة العرب إطلاقاً، لا في الجاهلية ولا الإسلام، إنما المقصود النهي عن إظهار الزينة الخارجية، أو إظهار المحاسن الخلقية المضافة للمرأة.
وقال تعالى: ﴿يا بَني‏ آدَمَ خُذُوا زينَتَكُمْ‏ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد﴾()، وهي الزينة الخارجية لا الخلقية كما هو واضح.
وقال عز وجل: ﴿ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَت‏﴾()، أي تزينت بأمر زائد على الذات، ولا يخفى ذلك من قرن الزينة بالزخرف.
وقال تعالى: ﴿ وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرين‏﴾()، فالبروج تزين السماء كما تزين الحلي وغيرها المرأة. ومثله قوله تعالى: ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزينَةٍ الْكَواكِب‏﴾() وقوله: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابيح‏﴾(). وقوله: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيْحَ وَحِفْظَاً﴾().
وقوله: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها﴾(). وقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِيْنَةً لَهَا﴾(). وقوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِيْنَتِهِ﴾()، أي بملابس فاخرة وأمثالها.
خلاصة الأمر: أن الزينة في اللغة والاستعمالات القرآنية هي اسمٌ جامع لكل ما يُتزين به، والأصل في استعماله أن يكون لما هو خارج عن الذات، ويستعمل أيضاً فيما يضاف إليها بأي نوع من أنواع الإضافة، فيقال: بنيت الدار ثم زينتُها بالمصابيح، وتزيّنت المرأةُ لزوجها، وخرج الملك في زينته، وزينةُ الرجل الحلم (أي حلمه)، والشَّعر زينة المرأة (أي شعرها)، وهكذا. وأن استعمال العرب لهذه اللفظة في المرأة لا يقصد به إلا ما هو زائد عن تكوينها الطبيعي، فيقال: تزينت المرأة بالحلي والخضاب والكحل والإثمد، ولا يقال تزينت بنفسها أو بجسدها أو ما أشبه ذلك مما هو باطل لا يستقيم معناه.
أما ما ادعاه شحرور من كون جسد المرأة كله زينة، فلا عين له ولا أثر في اللغة.
5 ـ تقسيمات الزينة وأنواعها:
قسّم شحرور الزينة إلى ثلاثة أنواع، وجعل زينة المرأة من النوع الثاني (زينة الأماكن أو المواقع) وقسّم زينتها إلى ظاهرة وخفية، وكل ذلك بلا دليل من لغة أو عقل أو غيره. وكل ما ورد في كتب اللغة هو المعنى العام للزينة ليس إلا.
بل من الغريب أنه عندما قسم الزينة إلى ظاهرة ومخفية، جعل الظاهرة الجانب الخَلقي، وهو جسد المرأة كلُّه عدا بعض المستثنيات، مما يعني أن الزينة بمعنى لبس الحلي والأقراط والتكحل وغيرها ليست من الزينة بالمرّة، مع أنها من أوضح مصاديق الزينة، وقد ذكرها في القسم الأول. بل نفى أن يكون المقصود في الآية هو المكياج وأمثاله. قال: «فإذا كانت الزينة مكانية فجسد المرأة كله زينة، والزينة هنا حتماً ليست المكياج والحلي وما شابه ذلك، وإنما هي جسد المرأة كله»(). ولم يذكر هنا ـ كالعادة ـ دليلاً واحداً على إخراج هذا النوع من الزينة (المكياج والحلي) من عموم ما ذكره اللغويون للزينة، وأنها اسم لكل ما يُتزين به، مع أنه من أوضح مصاديق الزينة عند العرب إذا ذكر في سياق الحديث عن المرأة، وهو ما لم ينكره شحرور نفسه.
ثم إن العرب تفرق في لغتها بين جمال المرأة الخَلقي، وبين زينتها وتزيينها، وقد استخدمت في الجمال والحسن الخلقي أوصافاً وألفاظاً أخرى كثيرة لا علاقة لها بالزينة، فقالوا مثلاً: امرأة عيناء، ونجلاء، وهيفاء، ودعجاء، البضّة، الرقراقة، النظرة، الغيداء، الفرعاء، وغيرها من الأسماء التي تعبر عن أوصاف خلقية(). أما الأوصاف المتعلقة بالزينة الخارجية فتقول العرب: امرأةٌ عاطل، أي لا حَلْيَ عليها(). وقالوا: لا غرو أن تحسُد الحاليَ العاطلُ. «وجيدٌ مِعطال: لا حَلْي عليه»().
فهناك فرق عندهم بين أوصاف الجمال الخلقي، وبين الأوصاف المتعلقة بالزينة الخاجية المضافة.
6 ـ معنى الجيوب:
وهي المفردة الثانية التي فسرها بشكل غريب، وبنى عليها آراءً خطيرة. وبالعودة إلى معاجم اللغة أيضاً نجد أن الجيب إما أن يكون من «جوب» أو «جيب» وكلاهما واحد. فجيب القميص: «ما ينفتح على النحر، والجمع جيوب»(). «والجَوْب: دِرعٌ تلبسُه المرأة»(). قال ابن فارس: «الجيم والواو والباء أصلٌ واحد، وهو خَرْقُ الشيء‏»(). وقال أيضاً: « فالجَيْبُ‏ جَيب‏ القميص. يقال‏ جِبْتُ‏ القميص: قَوّرتُ‏ٍ جَيْبه‏، وجَيَّبْتُه‏ جعلت له‏ جَيباً»().
كما نجد في لغة العرب مفردة «الزِّيْق» أيضاً، وتعنی «ما کُفَّ من جانب الجيب. وزيق القميص ما أحاط بالعنق»(). «يقال: جيَّبَ القميصَ وزَيَّقَهُ: جعل له جَيباً وزِيقاً، وهو ما يُكفُّ به»().
وقد كان من عادة المرأة العربية آن تشق جیبها عند المصيبة، وترفع صوتها بالصراخ، قال الشاعر:
نقعنَ جيوبهنّ عليّ حياً وأعددن المراثي والعويلا
أي شققن جیوبهن. وقالوا في قصة جديس: «فخرجت رافعةً صوتها شاقَّةً جيبها».
ولا نحتاج هنا إلى مزيد من التوغل في أعماق المعاجم اللغوية، فالجيب لا يتعدى هذا المعنى، ولم يرد في المعاجم غير هذا. أما ما ذكره شحرور من تفسير الجيوب بمناطق معينة من جسد المرأة، فهو من أعجب العجائب التي جاء بها في هذا الموضوع بالذات، فلم نجد في اللغة لا وضعاً ولا استعمالاً، لا مجازاً ولا حقيقة، من أطلق لفظ الجيب على الأجزاء التي ذكرها من جسم المرأة. كما لم نجد منهم من قال في معنى الجيب «ما كان له طبقتان، أو طبقتان وخرق» كما أنه لم يذكر لنا هل أن هذا الاستعمال من الحقيقة أو المجاز؟ وأين استعمل العرب هذه الألفاظ في المعاني المذكورة؟
من هنا نجد أن هذا التفسير لا علاقة له بلغة العرب، ولا استعمالاتهم، لا من قريب ولا من بعيد، والمعروف أن القرآن الكريم نزل بلسان العرب في زمانهم، فلا بد أن يكون موافقاً لاستعمالاتهم في الجملة، لكي يفهموا المراد منه. وبناء على ما ذهب إليه شحرور يكون القرآن الكريم قد أراد معنى ، لكنه جاء بلفظ يفهم منه السامع غير ما أريد منه واقعاً، أي أنه ذكر الجيوب وهي بلسان العرب ما يلي النحر من القميص، وأراد الفرج والإليتين وما تحت الأثداء والإبطين.
ومما يقتضي التوقف هنا، أن ما ذكره من المستثنيات لا يمكن قبوله حتى على تفسيره هو، فيا ترى كيف جعل ما بين الثديين مما يجب ستره لأنه «جيب»، فيما ترك حلمتي الثديين بلا ستر لأنهما ليستا جيبين؟ وكيف يمكن تصور ستر ما تحت الإبطين فقط، فيما يظهر سائر البدن بما في ذلك حُلَم الأثداء؟ هل أن ما تحت الإبطين مثلاً أولى بالستر من حلمتي الثديين؟
خلاصة الأمر: أن هذا التفسير لا علاقة له باللغة، ولا يمكن للذهن العربي أن ينتقل من لفظ الجيب إلى المستثنيات التي ذكرها، كما لا يوجد في القرآن الكريم ما هو بهذا المعنى مطلقاً.
ومن الجدير بالذكر، أن القرآن الكريم ذكر بعض الآيات التي تفسر الآية المذكورة بما ذهب إليه أهل اللغة من معنى الجيب: قال تعالى: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِك﴾(). وقال عز من قائل: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ في جَيْبِكَ﴾(). بمعنى أن الله تعالى، أمره أن يُدخل يده في جيب مدرعته أو قميصه، ولا يمكن حملها على ما حمله عليه شحرور من معنى.
7 ـ لزوم تخصيص الأكثر:
مما نلاحظه في قوله تعالى: ﴿وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ أو ﴿إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، أن الأصل هو إخفاء الزينة، والاستثناء هو موارد الإباحة، وهذا من نوع التخصيص بالاستثناء. ولكنه وفقاً لتفسيره يكون من تخصيص الأكثر، وهو معيب وقبيح ومستهجن، ولا يليق ببلاغة القرآن الكريم.
بيان ذلك: أن تقسيمه الزينة إلى الظاهرة والخفية، جعل الظاهرة أكثر من الخفية بكثير، فكيف يجعل الزينة الخفية هي الأصل الذي يجب ستره، والزينة الظاهرة هي الاستثناء الذي يجوز كشفه؟ فكان الأليق بالبلاغة طبقاً لتفسيره أن يقال: «ولا يَستُرن زينتهن إلا ما خفي منها». أي لا يسترن الجسد كلَّه إلا الجيوب بحسب تعبيره.
8 ـ تفسير إبداء الزينة:
من عجائب ما ورد في تفسيره لإظهار الزينة أنه فرّق في التفسير بين قوله تعالى: ﴿ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إلّا لِبُعُوْلَتِهِنَّ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها﴾ حيث فسر الزينة في الأول بأنها الزينة الخفية التي ادّعى أنها (الجيوب) والثاني بالزينة الظاهرة، وهي سائر جسد المرأة، فمن أين جاء بهذا التفريق والتفصيل؟
لا يقال: إن الزينة الخفية عنده هي (الجيوب)، والظاهرة سائر الجسد، فهذا تخصيص بلا مخصص، فالزينة في الموضعين جاءت بلفظ ولحد، كما أنها مضافة للضمير، فهي بمعنىً واحد من جهة، ومضافة للذات من جهة أخرى.
والأمر الآخر: ادّعى أن الإبداء لا يكون إلا عن خفاء، قال: «فالزينة الظاهرة هي ما ظهر من جسد المرأة بالخَلق، أي ما أظهره الله سبحانه وتعالى في خلقها، كالرأس والبطن والظهر والرجلين»(). وقال في موضع آخر: «وهذا الإبداء لا يكون إلا لشيء مخفي أصلاً»(). أي أنه لم يقدّم معنىً ثابتاً للإبداء، وهل هو عن خفاء، أم يمكن أن يكون لما هو ظاهر في الأصل؟ وإذا كانت الزينة الظاهرة عنده هي ما أظهره الله من جسدها كله سوى (الجيوب) فما معنى إظهار ما هو ظاهر بالأصل؟
هذا المعنى لا يستقيم إلا إذا قلنا: إن الزينة أمر آخر غير ما ذكر، وأن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة من حيث الأصل، والإظهار استثناء من الأصل، وهو ما لا لم يُتعارف إخفاؤه من الزينة، وكذلك إظهار الزينة بالكامل أمام الزوج والابن ومن ذكرتهم الآية.
ثم إذا كانت اللغة العربية قابلة لتصور الإبداء في الحالين، أي أن يكون للظاهر في الأصل، أو الخفي، فبأي دليل جعل لكلٍّ من القولين معنىً، مع أنهما في آية واحدة وبتعبير وتركيب واحد؟
أما الذين فسروا الزينة بما هو زائد عن الذات والجمال الجبلّي، من الكحل والخضاب، أو غيره، فلم يحتاجوا لهذا التكلف، فهي في الحالين تعني الزينة عموماً، وهذه الزينة منها ما هو ظاهر في الأصل متعارف بين الناس، وهذا مسموح بإظهاره، ومنها ما هو زينة خاصة بالتبرج كلبس الحلي والمكياج المعروف في زماننا هذا وغيره، وهذا لا تظهره المرأة إلا لمن ذكرتهم الآية.
9 ـ تفسير الضرب بالسعي والعمل:
مما أفاده في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفينَ مِنْ زينَتِهِنَّ﴾ أنّ الضرب هنا بمعنى السعي والعمل، وأنّ النهي في الآية كان هو عن العمل الذي يؤدي إلى إظهار (الزينة الخفية)، «لكي لا يعلم ما يخفين من زينتهنّ»().
ولو رجعنا للآية وتأملنا في تركيبها اللغوي، لأمكننا أن نطرح مجموعة من الإشكالات، أبرزها:
الإشكال الأول: تعليل الضرب:
وحاصله: أن فهمه إياها من الناحية اللغوية خاطئ ومعكوس تماماً، فالآية تقول: لا يضربن بأرجلهن ضرباً من شأنه يجعل الآخر يعلم الزينة المراد إظهارها أو الظاهرة بالأصل. فاللام هنا بمعنى الفاء، وهي تعليل للضرب، أي لا يضربنَ فيُعلمَ ما يبدين من زينتهن بسبب الضرب. فالمنهي عنه في الآية ليس الضرب مطلقاً، إنما الضرب الذي يتسبب في إظهار الزينة، كما هو الحال في الخلاخيل التي كانت تلبسها النساء، حيث يكون الضرب سبباً في صلصلة الخلخال، بحيث يعلم السامع أن المرأة متزينة به. أما شحرور ففهم منها أن اللام تعليل لعدم الضرب، لا للضرب نفسه. فأصبح المعنى عنده: لا يضربن بأرجلهن لكي لا يعلم ما يخفين. بعبارة أخرى: لماذا لا يضربنَ؟ الجواب: لكي لا يُعلم ما يخفين. قال: «والسبب في ذلك النهي هو لكي يُعلم ما يخفين من زينتهن»().
أضف إلى ذلك أن الآية صريحة في التعليل: ﴿لِيُعْلَمَ ما يُخْفينَ مِنْ زينَتِهِنَّ ﴾ فكيف أصبح المعنى عنده: لكي لا يعلم ما يخفين؟
قد يقال: إن الإبداء إظهار بعد خفاء، وهو ما قاله شحرور في موضع آخر()، إلا أن التركيب اللغوي للآية واضح في أن العلة هي العلم بما يبدين، لا عدم العلم بما يخفين، فتأمل.
الإشكال الثاني: معنى الضرب:
استعرض شحرور ما زخرت به معاجم اللغة من استعمالات الضرب، دون فرق عنده بين أصل الضرب وضعاً، وبين استعمالاته الكثيرة في لغة العرب، وبين أسمائه، وبين الحقيقة والمجاز. ثم قفز فجأةً إلى نتيجة مفادها أن معنى الضرب في قوله تعالى: ﴿ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ﴾، هو العمل والسعي، دون أن يذكر دليلاً واحداً أو شاهداً على استعمال العرب هذا التركيب بالمعنى المذكور. فلم نعهد في كلام العرب أنهم قالوا لمن يسعى ويعمل: «ضرب برجله». إنما استبدلوا بهذا التعبير مفردة «الرَّكْض» قال تعالى: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾()، أي اضرب برجلك. والركض هو الضرب بالرجل.
وبالعودة إلى معاجم اللغة نجد أن الضرب «إيقاع شيء على شيء»(). وهو «أصل واحد، ثم يُستعار ويحمل عليه»(). فالأصل إيقاع شيء على شيء، أما الاستعارة فتحتاج إلى قرينة وعلاقة. ولم نعهد في لغة العرب استعارة أو حملاً بالمعنى الذي ذكره، مطلقاً. مع أنه ذكر أولاً أن الضرب له أصل واحد، ثم يُستعار ويحمل عليه. فيا ترى أين وردت تلك الاستعارة أو الحمل؟ وما هي القرينة التي تجعل معنى (اضرب برجلك ) هو السعي في طلب العمل والكسب؟ أما سائر الاستعمالات التي ذكرها فهي سماعية توقيفية، ولا يمكن أن نتصرف نحن بلغة القرآن فنحمل ألفاظه على ما لم يرد في لغة القوم الذين بلغتهم.
أضف إلى ذلك إلى أن مما قرره أهل اللغة أن الأصل في اللفظ هو الحقيقة، والحمل على المجاز بحاجة إلى قرينة وعلاقة وسبب، وليس في الآية ما يدعو لذلك، إنما هو ضرب الأرجل بعضها ببعض أثناء المشي، بشكل ملفت للسامع، كما هو الحال في ضرب الرجلين المحَلَّيتين بالخلخال وأمثاله.
الإشكال الثالث: النهي عن العمل
وخلاصته أن شحرور بعد فهمه السابق للآية انتهى لنتيجة مفادها أن العمل مباح للمرأة جملة وتفصيلاً، باستثناء عملين فقط: هما العرض العاري، والبغاء. وباستثناء حرمة البغاء لأنها بدليل خاص، يكون المستثنى هو التعرّي فقط، أي العمل الذي تتكسب به المرأة، ويلزم منه إظهار الزينة الخفية (الجيوب). بينما الوارد في الآية هو النهي عن الضرب، وعلى تفسيره هو للضرب بمعنى السعي والعمل، يكون العمل كلُّه منهياً عنه، وليس العكس. فالنهي عن العمل معلَّل بأنه يؤدي إلى أن يُعلَم ما يخفين من زينتهن بحسب فهمه، فيقتضي أن لا تخرج المرأة للعمل مطلقاً، لأن ذلك يؤدي إلى ظهور زينتها المخفية (الجيوب). فيكون المعنى ـ طبقاً لفهمه ـ أن المرأة منهية عن العمل للسبب المذكور، بخلاف ما انتهى إليه من إباحة جميع الأعمال لها.
أضف إلى ذلك أن التعليل هنا باطل، والمعنى فاسد، فالسعي والعمل لا يؤدي إلى إظهار (الجيوب) كما هو معلوم.
الإشكال الرابع: تحريم البغاء:
من الغريب حقاً أن يجعل شحرور البغاء من الأعمال المخالفة للحجاب، باعتبار أن هذا العمل يؤدي إلى إظهار الزينة الخفية (الجيوب) مع أن البغاء موضوع مختلف، ترتَّب عليه حكم مختلف، ولا علاقة له بالستر والحجاب. بعبارة أخرى: أن المحرَّم هنا هو البغاء نفسُه كممارسة عملية، لا أنه محرم من جهة إبداء العورة بحيث نتصور أن ممارسته لو حصلت بلا إبداء العورة فهو مباح! أو أن تجارة الجنس إذا لم تؤدِّ إلى إظهار الزينة الخفية (الجيوب) فهي مباحة، وهو ما يقتضيه تفسير شحرور. إنما هو عمل منهيٌّ عنه ومحرم في نفسه جملةً وتفصيلاً. بل كيف يسوغ لمسلم قرآني أن يدّعي أن الزنا محرم لأنه يؤدي إلى إظهار العورة، فيدخل في باب الحجاب؟ وماذا لو عملت المرأة بعمل لا أخلاقي دون أن يؤدي إلى إظهار الجيوب الخاصة، مما هو قريب من البغاء والزنا، كما لو عملت في أفلام الإثارة الجنسية وهي عارية دون الجيوب؟ هل يقال: إن هذا ليس بغاءً لأنه عمل لا يؤدي لإظهار (الجيوب) كما هو مقتضى تفسير شحرور؟
فالبغاء إذن خارج تخصصاً من موضوع الحجاب، ولا علاقة له لا بإظهار الزينة الخفية ولا الظاهرة.
الإشكال الخامس: تخصيص الأكثر
طبقاً لكلام شحرور في كون العمل المنهي عنه هو التعري الكامل فقط، بعد استثنائنا للبغاء وخروجه تخصصاً من البحث، يكون معنى الآية هكذا: لا يجوز للمرأة أن تعمل، إلا في التعليم والطب والطيران والمصارف والرقص والغناء والسباحة وممارسة الرياضات المختلفة… إلخ، لأن العمل في التعرّي يؤدي إلى إظهار الزينة الخفية وهي الجيوب. وهذا تخصيص للأكثر بالاستثناء، وهو قبيح جداً، بل ممتنع بحق القرآن الكريم، فهو السنام الأرفع في البلاغة والبيان ودقة التعبير.
الإشكال السادس: الخمار لغةً واصطلاحاً
مما نجده من التناقض العجيب، أنه عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَّ﴾ ذهب إلى أن الخمار كل ما يختمر به، أي يُتغطى به، وليس خمار الرأس فقط. أي أنه أخذه بمعناه اللغوي لا الاصطلاحي. وأن الله تعالى أمر المؤمنات بتغطية الجيوب التي هي الزينة المخفية خلقاً(). لكنه بعد ذلك بعشر صفحات أكد أن الخمار المقصود في الآية هو غطاء الرأس فقط، والمقصود هو المعنى الاصطلاحي، وأن المرأة العربية كانت تلبس الثوب الطويل والخمار على الرأس ليقيها الحر، وأن المرأة العربية المسلمة بعد نزول الآية أبقت على لباسها السابق، «لكنها وجدت إمكانية إظهار جيوب الثديين من فتحة الصدر في ثوبها الخارجي، فضربت على صدرها بخمار رأسها»().
فبينا هو يقرر أن الخمار ليس مختصاً بخمار الرأس، وأن المقصود بالآية هو تغطية الجيوب بالخمار، وهي الزينة المخفية، عاد ليؤكد أن الخمار هو غطاء الرأس، وأن المرأة كانت تضربه على صدرها بعد نزول الآية، وهو عين ما قاله المفسرون في تفسير الآية، وما تساعد عليه اللغة والعرف العربي عند نزول النص.
فقد كانت نساء الجاهلية يلبسن المقانع، أي الخُمُر، ويُلقينها على ظهورهن، فتبدو نحورُهنّ، فأمرهن الله تعالى أن يلقينها على صدورهن لتغطية النحور.
وعليه يكون لشحرور رأيان مختلفان: أحدهما موافق لما عليه اللغة وأهل التفسير، والآخر مخالف لهما. وهكذا ينسى ويتخبط من لا يمتلك منهجاً محدداً في أي علم من العلوم.
وقد أقرّ شحرور ضمنياً أن المرأة العربية كانت قد فهمت الآية بخلاف ما يراه، وهو أنها كانت مأمورة بإسدال الخمار على الصدر لتغطية النحر، وهذا هو الملائم للخطاب القرآني الذي جاء بلسان العرب، ففهمته المرأة العربية بسرعة وعفوية، وغاب معناه عن شحرور.
خلاصة البحث:
بعد هذه الجولة في العرض والتحليل والمناقشة انتهينا إلى النتائج التالية:
1 ـ عدم وجود منهج محدد لشحرور في التفسير، ففي الوقت الذي يدّعي أنه يتعامل مع النص وفق مبادئ وأساليب اللغة العربية واستناداً لمعاجم اللغة، تجد أنه يأتي بالمعاني العجيبة التي لم ترد في أي معجم من معاجم اللغة، وليس لها شاهد من القرآن أو الشعر العربي، أو أمثال العرب. فقد فسر الزينة بجسد المرأة كله، وجعل الزينة الخفية هي الفرج، والإليتين، وما بين الثديين، وتحت الإبطين فقط، أما الباقي فهو من الزينة الظاهرة، كما فسر الجيوب تفسيراً عجيباً لم يسبقه إليه سابق من أهل اللغة ولم يلحقه لاحق.
2 ـ لم نجد في كتابه من الهوامش التوثيقية إلا النَّزْر اليسير، فحتى نهاية الفصل الأول الذي تجاوز 760 صحيفة، لم يرد فيه سوى 21 هامشاً معظمها إحالات على كتبه الأخرى أو بعض الكتب اللغوية المختصرة. أما الموضوع الذي تناولناه في البحث ـ لباس المرأة والرجل وسلوكهما الاجتماعي ـ فلم يرد فيه توثيق واحد البتة.
3 ـ محاكمة الفقهاء ممن يتبنون منهج محورية الكتاب والسنة، وتخطئتُهم، مع أنه بلا منهج، أو على فرض أن لديه منهجاً، فهو مختلف عن منهجهم، ولا يمكن محاكمتهم بموجبه. أضف إلى ذلك أن ما وقع فيه من أخطاء لغوية جسيمة لم يقع فيه الفقهاء في مرحلة البحث اللغوي، وهي الجهة المشتركة بينه وبينهم، فكانوا أقدر منه بكثير على فهم اللغة وأساليب العرب في الكلام.
4 ـ الضعف الواضح في اللغة العربية: فمن ذلك الخلط بين المعنى اللغوي والاصطلاحي في لفظ الخمار وغيره، وبين الوضع والاستعمال في مادة الضرب وغيرها، والأخذ بأحد الأصلين وترك الآخر في مادة «غضض»، فلهذه المادة أصلان: أحدهما الكفّ، والآخر الطراوة، فأخذ بالأصل الثاني مع أن المراد هو الأصل الأول، إذ لا معنى للطراوة في غض البصر، إنما هو الكف.
بل عدم تمييزه بين (نون النسوة) و (علامة الجمع للمؤنث) في تفسير قوله تعالى: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ حيث قال: «ونون النسوة هنا للتابعية لا للجنس، فإذا كانت للجنس فهذا يعني أن هناك نساء النساء، وهذا غير معقول إذا كانت نساؤهنّ تعني الإناث». وقد فسر النساء بمعنى جمع «النسيء» أي المستجد المتأخر، وليس جمع امرأة، والمقصود به عنده الرجال الذين يأتون فيما بعد من الأحفاد وأبناء الإخوان والأخوات. مع أن اللغة لم يرد فيها هذا اللفظ على أنه جمع نسيء. ولو فُرض فلا يستقيم المعنى على ما أراد، ويقتضي أن يكون جمع «مُنسَأ» وهو اسم المفعول من «أنسأَ». وعلى جميع التقادير لا يستقيم المعنى لغوياً على ما أراد.
والملفت أيضاً أنه رفض إضافة الشيء لنفسه، بقوله: «فهذا يعني أن هناك نساء النساء، وهذا غير معقول إذا كانت نساؤهنّ تعني الإناث»، وفاته أن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، وهو وارد في كتاب الله تعالى وفي لغة العرب في أفصح كلامهم. قال تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾(). فأضاف الرجال إلى الضمير، المتصل بعلامة جمع المذكر. وكذلك قال عز وجل: ﴿وَاسْتَشْهِدُوْا شَهِيْدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾(). فلا مانع (عقلاً) ولا لغةً أن يقال: نسائهنّ، بمعنى النساء المصاحبات لهن ،أو نساء أهل دينهن من المؤمنات، أو الحرائر في، مقابل الإماء المذكورات فيما بعد. فصحّت الإضافة لاختلاف المعنى بتخصيص اللفظ الثاني بوصف أو إضافة.
ولو تتبعنا ما ورد في كتابه من الإخفاقات اللغوية في الاشتقاق والإعراب وفهم التراكيب لاحتجنا إلى تسويد الكثير من الصفحات.
4 ـ مما قرره شحرور أن نساء العرب في الجاهلية لم تكن تعرف العُري()، وأن اللباس (القومي) للمرأة العربية آنذاك هو الثوب الطويل والخمار على الرأس، مما يعني أن هذه الآيات ناظرة إلى إقرار هذا اللباس وتعديله بالشكل الذي يغطي الصدر ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَّ ﴾، لكنه عند تفسيره الآية لم يرتض أن يكون الخمار اسماً لما كانت المرأة في الجاهلية تضعه على رأسها. وهو تناقض عجيب منه.
5 ـ الصورة النهائية لحجاب المرأة الذي انتهى إليها شحرور لا تعني إلغاء الحجاب بالمطلق فحسب، إنما تعنى إلغاء اللباس برمته، وطبقاً لهذه الصورة يمكن للمرأة المسلمة المتدينة القرآنية أن تسير في الطرقات بملابس السباحة أو أقل منها، فلا تغطي سوى العورة الخاصة وبعض الصدر، وتظهر سائر جسدها حتى الأثداء، لأنها ليست من الجيوب بحسب نظره. بل بإمكانها أن تدخل المسجد مع الرجال لتصلي أمامهم دون أي مانع ديني، لأن الله لم يحرم عليها الاختلاط. وهذه الصورة يأنفها الطبع البشري والفطرة السليمة في جميع الديانات والأعراف والأمم والحضارات بما في ذلك الحضارة الغربية، فلا نجد في العالم من الناس الأسوياء من يتقبل ظهور ابنته أمامه عارية بالكامل بحيث يرى منها كل شيء حتى العورة الخاصة التي أسماها شحرور بالجيوب أو الزينة الخفية.
أضف إلى ذلك أن هذه الصورة تعتبر من أوضح دواعي الفساد الأخلاقي وانتشار الجريمة في المجتمع، فنحن نرى أن المجتمعات الإنسانية مع كونها لم تصل إلى هذه المرحلة من الصورة (الشحرورية) للمرأة، إلا أن انتشار الزنا والاغتصاب والخطف والقتل بلغ أرقاماً مروعة، فما بالك لو سمح للمرأة أن تتخلى عن لباسها بالكامل، أو أن تكتفي بقطعتي قماش صغيرتين لتغطية (الجيوب) كما يسميها، ثم تختلط بالرجال لتعمل في الرقص والغناء وتمارس أنواع الأعمال والرياضات وهي على هذه الحالة؟ فإن كانت هذه هي الفضيلة التي جاء بها الإسلام، بل جميع الديانات والأعراف، وما دعت إليه الفطرة الإنسانية، فلا يبقى معنى للرذيلة بعد ذلك.
أضف إلى ذلك أن هذه الصورة القبيحة المفترضة ترسّخ الاستهانة والاستخفاف بالمرأة والحطّ من شأنها، فمن الأمور الفطرية لدى الإنسان أن يحترم المحتشم من الرجال والنساء، وينظر لغيرهما باستخفاف ودونية، وها نحن نرى في جميع أنحاء العالم أن النخبة المتقدمة من النساء والرجال يظهرون بمظهر محتشم، بعيداً عن نظرتهم للأديان وحدود الحجاب، ولم تجد الدعوات للتعري الكامل صدىً حتى في الغرب والعالم المتحرر، إلا في نطاق محدود جداً. بل جرت العادة في أغلب الأعراف في العالم، لا سيما في المجتمعات المحافظة على احترام المرأة المحتشمة. وبالتالي لا يمكن أن تتناسب هذه الصورة مع روح الإسلام بل كافة الشرائع السماوية، ولا مع الأعراف والتقاليد، ولا مع الفطرة الإنسانية بشكل عام، ولا الحدّ الأدنى من الخلق الإنساني.
والحمد لله رب العالمين.

المصادر والمراجع:

مقدمة:
يعتبر القرآن الكريم المصدر الإلهي الهادي إلى سبيل الرشاد، لدى جميع المسلمين، وهو خاتمة الكتب الإلهية ﴿مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾() ﴿وَهُدَىً وَبُشْرى للمُؤمنين﴾(). وما من مسلم إلا ويعتقد أن الله تعالى خص هذه الأمة بكتاب: ﴿لا يَأْتيهِ‏ الْباطِلُ‏ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَمَيد﴾(). فهو «مرجع اللغوي، ودليل النحوي، وحجة الفقيه، ومثل الأديب، وضالة الحكيم، ومرشد الواعظ، وهدف الخلقي، وعنه تؤخذ علوم الاجتماع والسياسة المدنية، وعليه تؤسس علوم الدين، ومن إرشاداته تكتشف أسرار الكون، ونواميس التكوين. والقرآن هو المعجزة الخالدة للدين الخالد، والنظام السامي الرفيع للشريعة السامية الرفيعة»().
ولا كلام لمسلمٍ في ذلك، إنما الكلام في السبيل إلى فهم القرآن الكريم، والأدوات التي نستطيع من خلالها التوصل إلى المراد، بحيث يمكن وضع الخطوط العامة والتفصيلية للمنظومة التشريعية. فلو أرسلنا نظرة خاطفة للعلاقة بين القرآن الكريم وواقع التشريع، لرأينا أن الواقع التشريعي أوسع بكثير، وأكثر تفصيلاً مما في القرآن الكريم، سواء من حيث الموضوعات أو الأحكام، فالعبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات لم تذكر تفاصيلها في القرآن الكريم، والمفترض أن الرسالة الإسلامية هي خاتمة الرسالات، فلا بد أن تغطي حاجة البشرية جمعاء في شتى الموضوعات الكلية والجزئية. فهل نكتفي بالقرآن بمفرده مشرِّعاً؟ وكيف يمكن من خلال ذلك تأمين وتلبية الحاجات الفعلية للمكلف المسلم فرداً أو مجتمعاً؟ وما هي الوسائل التي نعتمدها في فهم القرآن؟
هذه التساؤلات كانت ولا تزال تُطرح، ومن هذا المنطلق نشأت الكثير من التوجهات والرؤى في هذا الشأن، أبرزها وأشهرها حاجتنا إلى السنة في فهم القرآن الكريم، بالإضافة إلى الأدوات والوسائل ذات العلاقة بالفهم، كعلوم اللغة والعلوم العقلية وغيرها.
ولكن، ظهرت عبر التاريخ دعوات أخرى تبنت الاكتفاء بالقرآن الكريم حصراً، دون الحاجة إلى السنة، بل دون الحاجة إلى العلوم الأخرى.
ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن هذا التوجه كان في زمن النبي (ص) وله ارتباط وثيق بالموقف العقدي من النبي (ص) وهل أن كلامه حجة أو أننا ملزمون بالقرآن فقط؟ وقد سئل في حياته بعض الأسئلة التي تشير إلى وجود هذا التوجه.
إلا أن ظهور هذا المنهج بشكل فعلي ورسوخه وانتشاره بشكل واسع كان في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين في شبه القارة الهندية. وهو ما نتناوله لاحقاً بعد بيان مهم للمقصود بالرجوع للقرآن الكريم.
كما ظهر في البلدان العربية لاحقاً، وأصبح له روّاد وأعلام، كان لهم الأثر الكبير في ترويجه ونشره، وأحد هؤلاء الدكتور محمد شحرور من سوريا، الذي كتب مجموعة من الكتب، أبرزها: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، الذي انتشر بشكل واسع في الأوساط العربية، وكان له صدىً في أوساط الحداثويين العرب، بل تسربت بعض أفكاره حتى إلى داخل أروقة البحوث والدراسات القرآنية في المدارس الدينية والحوزات العلمية في العالم العربي، مع أن صاحبه لم يكن متخصصاً بالدراسات القرآنية ولا اللغوية.
وسوف نتناول فيما يلي نبذة تاريخية مختصرة تبين الأسس والجذور والمراحل التي مر بها هذا المنهج، ثم المقصود من هذا المنهج، ثم أبرز معالمه، ثم نتناول نموذجاً تفسيرياً لآيات الحجاب من الكتاب المذكور للدكتور محمد شحرور.
والحمد لله رب العالمين.

القرآنيون: نبذة تاريخية:
كانت أصل الانطلاقة في هذا المنهج من مقولات متفرقة كما ذكرنا، وهنالك الكثير من الشواهد التي تؤكد أن هذا الحسّ والتوجه كان موجوداً حتى في زمن الصحابة والتابعين، بل قبل ذلك في زمن النبي (ص).
فمن ذلك ما روي عن الحرث بن النعمان الفهري «أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: من كنت مولاه فعلي مولاه، ركب ناقته فجاء حتى أناخ ]راحلته بالأبطح ثم قال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك[ () رسول الله, فقبلناه منك, وأن نصلي خمساً, ونزكي أموالنا, فقبلناه منك, وأن نصوم شهر رمضان في كل عام, فقبلناه منك, وأن نحج, فقبلناه منك, ثم لم ترض بهذا, حتى فضّلت ابن عمك علينا, أفهذا شيء منك أم من الله؟ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والله الذي لا إله إلا هو, ما هو إلا من الله، فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً , فأمطر علينا حجارة من السماء, أو ائتنا بعذاب أليم, فوالله ما وصل إلى ناقته, حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه, فخرج من دبره فقتله, فنزلت { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذابِ وَاقِعٍ}»().
ولعل أقدم مقولة علنية صريحة في هذا الصدد، ما جاء في الصحيحين عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب من قوله: «حسبنا كتاب الله». ثم ما جرى بعد رحيل النبي المصطفى (ص) من المنع من التحديث وتدوين السنة، ثم تطور الأمر ليصل إلى الخوارج في أيام خلافة أمير المؤمنين (ع) عندما رفعوا شعار «لا حكم إلا لله».
وروي عن عمران بن حصين أنه كان جالساً ومعه أصحابه يحدثهم، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن. قال: فقال له: ادنه فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعاً وصلاة العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً والطواف بالصفا والمروة؟ ثم قال: أي قوم، خذوا عنا، فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضِلُّنَّ»().
ونجد في مروياتنا كذلك بعض التساؤلات التي أثارها المخالفون لنظرية الإمامة في أيام الأئمة عليهم السلام، يمكن اعتبارها مؤشراً على هذا التوجه.
فمن ذلك ما ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه سئل: «إن الناس يقولون فما له لم يسم علياً وأهل بيته (ع) في كتاب الله عز وجل؟ قال: فقال: قولوا لهم: إن رسول الله (ص) نزلت عليه الصلاة ولم‏ يُسمِّ‏ الله‏ لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتى كان رسول الله (ص) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزلت عليه الزكاة، ولم يُسمِّ لهم من كل أربعين درهماً درهمٌ، حتى كان رسول الله (ص) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزل الحج، فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعاً، حتى كان رسول الله (ص) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزلت:‏ ﴿أَطيعُوا اللَّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُولَ‏ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم‏﴾()‏ ونزلت في علي والحسن والحسين، فقال رسول الله (ص) في علي: من كنت مولاه فعلي مولاه‏…»().
لكن هذا المنهج تبلور بشكل واضح في شبه القارة الهندية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ثم انتقل إلى مصر والوطن العربي()، وتبناه العديد من الكتاب والباحثين. فقد تزعم حركة القرآنيين في بداية الأمر شخصان، هما: محبُّ الحق عظيم آبادي في مدينة بهار شرقي الهند، وعبد الله جَكْرَالَوِي في لاهور، الذي قام بتتشكيل جماعة أسماها «أهل الذكر والقرآن». ويرى بعض الباحثين أن البداية كانت قبل ذلك على يد أحمد خان المتوفى سنة 1897 م. فهو الذي بذر بذرة التوجه نحو القرآن فقط دون السنة النبوية. وكان من أعلام هذا المنهج آنذاك بالإضافة إلى محب الحق عظيم آبادي (توفي في أواخر الخمسينات )، وعبد الله الجكرالوي المتوفى سنة 1914 م، كلٌّ من: أحمد الدين الأمْرَتْسَرِّي المتوفى عام 1936 م، والحافظ أسلم جِرَاجْبُوري المتوفى سنة 1955م ، وغلام أحمد برويز المتوفى سنة 1985م، وغيرهم.
أما في البلاد العربية فقد انتشر هذا المنهج في وقت مقارب لما حصل في شبه القارة الهندية، وإن كان متأخراً عنه زمنياً بعض الشيء. فمن أعلامه في مصر(): محمد توفيق صدقي، إسماعيل أدهم، د. أحمد زكي أبو شادي، محمد أبو زيد الدمنهوي()، رشاد خليفة، الدكتور إسماعيل منصور، د. أحمد صبحي منصور. ويعتبر هذا الأخير الزعيم الروحي للقرآنيين في مصر والعالم العربي(). أما في سوريا فبرز اسم المهندس الدكتور محمد شحرور، وسامر إسلامبولي، ونيازي عز الدين، وغيرهم.
وأبرز من خاض في التفسير من هؤلاء: محمد أبو زيد الدمنهوري صاحب تفسير الهداية والعرفان، ومصطفى كمال المهدوي، صاحب تفسير البيان بالقرآن، ومحمد شحرور، صاحب كتاب: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، وغيره من الكتب. وسوف نقتصر في بحثنا هذا على نموذج واحد من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
مفهوم محورية القرآن في نظر القرآنيين :
يمكن أن نتصور مقولة «محورية القرآن» بشكل عام بثلاث تصورات، تشترك جميعاً في كون القرآن هو المحور:
الأول: أن المقصود بمحورية القرآن أنه المصدر الأول في التشريع، وهو المحور الذي تدور عليه رحى البحث في الاستنباط، لكننا لا نستغني عن السنة في فهمه، وتخصيص عمومه، وتفصيل مجمله، فهو والسنة شيء واحد من جهة الحجّية، وكلاهما بلّغه النبي (ص) وإنْ تقدم عليها رتبةً باعتبارات كثيرة، من أمثال عدم حاجته للإثبات وغير ذلك. وهذا التصور يمكن أن يسمى أيضاً: محورية القرآن والسنة، في مقابل من يقول بمحورية القرآن وحده، وهو غير داخل في بحثنا هذا، الذي يتناول محورية القرآن عند القرآنيين.
الثاني: أن المقصود بمحورية القرآن، أنه الأصل في التشريع أيضاً، ولكن ما عداه من السنة أمر ثانوي لسنا بحاجة إليه إلا في حدود ضيقة، وإن كان حجة. وأنّ النبي (ص) بلغ السنة كما بلغ القرآن، لكن السنة شابها الكثير من الوضع والدس والتزوير، ولذلك نلجأ إليها من باب الضرورة أحياناً. فالقرآن هو المحور الأول والأخير، ومنه نستنبط الأحكام الشرعية والمواعظ والإرشادات والقيم الأخلاقية والنظم الاجتماعية والسياسية وغيرها، ولكن مع عدم المنع من اللجوء إلى السنة في حال الضرورة والانحصار.
وهذا أيضاً لا دخل له بموضوع البحث أيضاً، إنما يمكن أن يسمى أصحابُه بالقرآنيين بالمعنى الأعم.
الثالث: أن القرآن الكريم هو المحور والأصل والأساس في التشريع، لكنه محور حصري، ولسنا بحاجة إلى غيره مطلقاً، إنما نتعامل معه بشكل مباشر، منه نبدأ، وإليه ننتهي، فلا نخرج منه إلى غيره، وأنه كافٍ ووافٍ بكل ما نحتاج إليه من علوم الشريعة. وأن النبي (ص) لم يبلّغ سوى القرآن الكريم، وما روي عنه من سنة ليست بحجّة وليس لها اعتبار، لأنه لم يكن مكلفاً إلا بتبليغ القرآن الكريم.
وبحثنا هذا يتناول التصور الثالث، الذي شاع وانتشر بين من دُعوا بالقرآنيين في القرنين الأخيرين، العشرين والحادي والعشرين الميلاديين.
أبرز معالم منهج القرآنيين:
من الصعوبة بمكان تشخيص منهج متكامل متفق عليه بين القرآنيين سوى العنوان العام، وهو ضرورة الانطلاق من القرآن إلى القرآن لفهمه في حدوده انطلاقاً من النص نفسه، دون تحكيم العناصر الأخرى الخارجية لا سيما السنة.
ولكن من خلال مراجعة ما نتج وترشح عن أقلامهم، أو من خلال ما ذكروه نظرياً، يمكن ذكر بعض المعالم والأسس التي يرتكزون عليها، وأهمها أمران:
1 ـ اعتماد العقل: يقول محمد شحرور في بيان منهجه المتبع في كتابه المذكور: «العلاقة بين الوعي والوجود المادي هي المسألة الأساسية في الفلسفة، وقد انطلقنا في تحديد تلك العلاقة من أن مصدر المعرفة الإنسانية هو العالم المادي خارج الذات الإنسانية»().
ويقول أيضاً: «الكون مادي، والعقل الإنساني قادر على إدراكه ومعرفته، ولا توجد حدود يتوقف العقل عندها… ولا يعترف العلم بوجود عالم غير مادي يعجز العقل عن إدراكه»(). ويقول: «لا يوجد تناقض بين ما جاء في القرآن وبين الفلسفة التي هي أمُّ العلوم، وتنحصر بفئة الراسخين في العلم مهمة تأويل القرآن طبقاً لما أدى إليه البرهان العلمي، وذلك وفق قانون التأويل في اللسان العربي الذي شرحناه بشكل مستفيض في الباب الأول من هذا الكتاب، وفي ضوء أحدث المنجزات العلمية»().
2 ـ اللغة: وهذا ما بينه شحرور في الباب الأول من كتابه: الكتاب والقرآن، ، وما طبّقه عملياً في كتابه كله، وفي المورد الذي تناولناه بالخصوص كما سيأتي.
نبذة عن حياة المهندس محمد شحرور:
هو محمد ديب شحرور() ، ولد في دمشق عام 1938 م وأكمل مراحل دراستة حتى الثانوية، ثم سافر في بعثة حكومية إلى الاتحاد السوفيتي السابق سنة 1958م، لدراسة الهندسة المدنية في موسكو، وحاز على شهادة الدبلوم في الهندسة عام 1964م. ثم أوفدته جامعة دمشق إلى الجامعة القومية الإيرلندية في دبلن، لتحضير الماجستير والدكتوراه في الهندسة المدنية، وبعد إكماله المهمة عُيِّن مدرساً في كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق عام 1972م. وهو يتقن اللغتين الروسية والانجليزية.
من أبرز مؤلفاته: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، دراسات إسلامية معاصرة، نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، القصص القرآني قراءة معاصرة.
ومن خلال سيرته العلمية يتبين أنه لم يتّلق أي تعليم ديني في أي مدرسة دينية، بل وحتى تعليماً لغوياً تخصّصياً، ويبدو من خلال بعض كلامه أنه اطلع على اللغة والفلسفة، وكانت له اهتمامات عامة بهما. يقول في مقدمة كتابه المذكور، في حديثه عن زميله جعفر دك الباب: «ولكنه في عام 1980 لاحظ من خلال أحاديثه معي أنني مهتم بأمور اللغة والفلسفة وفهم القرآن»(). ومع أنه ذكر في المقدمة أو ثنايا الكتاب بعض الإشارات الفلسفية، إلا أننا لم نلحظ أنه درس الفلسفة واللغة واللسانيات بعمق، إنما هي اهتمامات عامة ليس إلا، بل قاصرة بشكل كبير لا سيما في مجال اللغة.
نموذج من تفاسير شحرور:
سوف نستعرض نموذجاً تفسيرياً محدداً من كتاب المهندس محمد شحرور، ثم نبين المنهجية التي استخدمها في ذلك، ثم ننتقل للمناقشة والنقد، وهذا النموذج هو تفسيره لآيات الحجاب في القرآن الكريم.
لباس المرأة والرجل وسلوكهما الاجتماعي:
تناول شحرور تحت هذا العنوان مجموعة من العناوين ذات العلاقة بالحجاب، انطلاقاً من آيتين في سورة النور، حصر فيهما الرؤية القرآنية بخصوص «الحجاب والسلوك الاجتماعي» كما أسماه، وهاتان الآيتان هما قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى‏ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما يَصْنَعُون‏﴾(). والأخرى هي الآية التالية من السورة ذاتها، وهي قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ‏ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَني‏ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَني‏ أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى‏ عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفينَ مِنْ زينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَميعاً أَيُّهَا المؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾().
وسوف ننتخب بعض العناوين المهمة التي سلط شحرور الضوء عليها، طبقاً لمنهجه في التفسير، والنتائج التي انتهى إليها، وهي:
1 ـ لباس كل من الرجل والمرأة:
فقد قرر أن «الحد الأدنى من اللباس للرجل هو تغطية الفرج فقط»()، أما المرأة فتركه إلى محل آخر يأتي لاحقاً.
2 ـ زينة المرأة:
قسم الزينة عموماً إلى ثلاثة أنواع: زينة الأشياء، كالديكورات وتسريحة الشعر للرجل والمرأة والحُليّ() والمكياج للنساء. وزينة الأماكن والمواقع: كالحدائق العامة في المدن، والزينة المكانية والشيئية، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ‏ الَّتي‏ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾().
كما قسم زينة المرأة إلى قسمين(): الزينة الظاهرة والزينة المخفية، واعتبر أن جسد المرأة كله زينة، وليس المكياج والحلي وما شابه ذلك، وأن هذه الزينة (جسد المرأة بالكامل) ينقسم إلى قسمين:
الأول: ظاهر بالخلق، وهو جسد المرأة كلُّه إلا بعضَ المستثنيات التي سوف نبينها. قال: «فالزينة الظاهرة هي ما ظهر من جسد المرأة بالخلق، أي ما أظهره الله سبحانه وتعالى في خلقها، كالرأس والبطن والظهر والرجلين واليدين، ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الرجل والمرأة عراةً دون ملابس»().
الثاني: غير ظاهر بالخلق: «أي أخفاه الله في بنية المرأة وتصميمها»(). وهذا القسم المخفي هو الجيوب.
ثم بين معنى الجيب بقوله: «والجيب جاء من «جاب» كقولنا: جُبتُ القميص، أي قورت جيبه وجيَّبتُه، أي جعلت له جيباً، والجيب كما نعلم هو فتحة لها طبقتان لا طبقة واحدة، لأن الأساس في جيب هو فعل «جوب» في اللسان العربي، له أصل واحد وهو الخرق في الشيء، ومراجعة الكلام()!، «السؤال والجواب». فالجيوب في المرأة لها طبقتان، أو طبقتان مع خرق، وهي: ما بين الثديين، وتحت الثديين، وتحت الإبطين، والفرج، والإليتين، هذه كلها جيوب، فهذه الجيوب يجب على المرأة المؤمنة أن تغطيها لذا قال: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَّ ﴾.
والخمار جاءت من «خمر» وهو الغطاء، والخمر سميت خمراً لأنها تغطي العقل، وليس الخمار هو خمار الرأس فقط، وإنما هو أي غطاء للرأس وغير الرأس. لذا أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنات بتغطية الجيوب التي هي الزينة المخفية خَلقاً، وسمح لهنّ بإبداء هذه الجيوب بقوله: ﴿ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ﴾ هذا الإبداء لا يكون إلا لشيء مخفي أصلاً»().
ثم فسر قوله تعالى: ﴿وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ الآية، بأن هذه الجيوب ـ وهي الزينة المخفية في نظره ـ يجوز إبداؤها لمن ذكرتهم الآية الشريفة، فيجوز للمرأة إبداء حتى الفرج للزوج والأب ووالد الزوج والابن وابن الزوج … إلخ().
وذكر أن معنى إبداء الزينة هو إظهارها بعد خفاء، فالإبداء في نظره «لا يكون إلا لشيء مخفي أصلاً».
ثم تفطن شحرور إلى أن هذه النتيجة لا يمكن أن تنسجم مع الطبائع البشرية، وأنه أمر نشاز تمجّه الطبيعة البشرية، فأثار سؤالاً وأجاب عنه بقوله:
«قد يقول البعض: هذا يعني أن المرأة المؤمنة يحق لها أن تظهر عارية تماماً أمام هؤلاء المذكورين أعلاه، والمذكورين في نص الآية. أقول: نعم، يجوز إن حصل ذلك عرضاً، وإذا أرادوا أن يمنعوها فالمنع من باب العيب والحياء «العرف» وليس من باب الحرام والحلال لأنه شملهم مع الزوج»().
ويستمر في البيان حتى ينتهي إلى القول: «وهكذا أخطأ الفقهاء حين اعتبروا أن الزينة المذكورة في الآية هي زينة الأشياء، وإنما هي زينة المواقع»().
وقد قرر في بيانه هذا بعد ذلك أنْ لا يفهم من كلامه أنه يدعو المرأة أن تجلس عارية أمام الثمانية المذكورين في الآية، ولكن إذا حصل ذلك عرضاً فلا يوجد حرام، ولكن تلبس أمامهم من باب العيب والحرج لا من باب الحرام(). إلا أنه صرح قبل ذلك بعدم الفرق في إظهار الزينة المخفية بين الظهور عن قصد أو غير قصد().
3 ـ عمل المرأة:
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفينَ مِنْ زينَتِهِنَّ﴾ ذهب إلى أن الضرب هنا بمعنى العمل والسعي، وأن المحرَّم على المرأة المؤمنة هو ممارسة العمل الذي من شأنه إظهار الجيوب (الزينة المخفية)، ومن ذلك ما أسماه «ستربتيز Striptease»، أي العرض العاري، أو الرقص الذي يُظهر بعض الجيوب، «ولكنه لم يحرم الرقص بشكل مطلق، إنما حرم عليها إظهار الجيوب أو بعضها، بشكل إرادي، وهذا لا يحصل إلا من أجل كسب المال أو على شواطئ البحر. من هنا نرى أن الله سبحانه وتعالى حرم في حدوده مهنتين فقط على المرأة، وهما: أـ التعرية «ستربتيز» ب ـ البغاء. أما بقية المهن فيمكن للمرأة أن تمارسها دون حرج أو خوف وذلك حسب الظروف الاجتماعية التاريخية والجغرافية»().
وانتهى إلى نتيجة مفادها: «أن لباس معظم نساء أهل الأرض يقع بين حدود الله ورسوله وهذه هي فطرة الناس في اللباس»().
وأما عن قوله تعالى: ﴿يُدْنِيْنَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيْبِهِنَّ﴾() فرأى أنه للتعليم لا للتشريع، أي أن المرأة ليست ملزمة بما جاء في هذه الآية على نحو الوجوب والفرض().
4 ـ معنى الخمار:
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَّ ﴾ قال شحرور: «والخمار جاءت من خمر، وهو الغطاء… وليس الخمار هو خمار الرأس فقط، وإنما هو أيُّ غطاء، للرأس وغير الرأس، لذا أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنات بتغطية الجيوب التي هي الزينة المخفية خلقاً، وسمح لهن بإبداء هذه الجيوب بقوله: ﴿وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ﴾»().
ولكنه عاد بعد ذلك ليقول: «الرجال والنساء العرب كانوا يلبسون الزي القومي حسب الأعراف السائدة في مجتمعهم، وحسب المستوى الإنتاجي للألبسة… وكذلك كان لباس المرأة العربية هو لباس حسب أعراف العرب ومناخ شبه جزيرة العرب، فكانت تلبس ثوباً طويلاً، وتضع خماراً على رأسها ليقيها الحر. كلباس نساء البادية الآن، فعندما نزلت الآية 31 من سورة النور، نظرت المرأة العربية المسلمة إلى لباسها الذي ترتديه فعلاً ولم تغير منه شيئاً، وإنما وجدت إمكانية إظهار جيوب الثديين من فتحة الصدر في ثوبها الخارجي، فضربت على صدرها بخمار رأسها، لأن بقية الجيوب أصلاً كانت مغطاة بزيها القومي»().

المناقشة:
بعد هذا العرض للأدلة والنتائج التي توصل إليها شحرور، نقف عند بعض القضايا الكلية التي أدت به إلى تلك النتائج الغريبة التي لا تتناسب مع الفطرة الإنسانية السوية، ولا مع العفة، ولا مع روح الإسلام ومنهجه في تربية النفوس داخلياً، وضبط السلوك خارجياً.
وسوف نجعل المناقشة في النقاط التالية:
1 ـ أزمة التوثيق:
لم نجد في كتابه سوى دعاوى غير موثقة علمياً، وكل ما جاء به هو الاسترسال في الكتابة الإنشائية، لا سيما في الموضوع المذكور، إذ لم يرد فيه هامش واحد، من أوله حتى آخره. وبذلك تكون دعاواه ونتائجُه ساقطةً علمياً من أساسها، أضف إلى ذلك أننا سوف نبين مدى بُعدها عن ذات المنهج الذي اعتمده.
2 ـ تخطئة الفقهاء:
انتقد شحرور الفقهاء وخطّأهم بكونهم فهموا الآيات بخلاف فهمه، مع أن منهج الفقهاء يختلف عن منهجه، ولا يمكن محاكمة باحث أو مفكر إلا طبقاً لمنهجه الذي يتبناه، وإلا لصحّ للفقهاء أيضاً أن يحاكموه ويخطِّئوه، لأنه أهمل السنة والإجماع والسيرة وغيرها مما يعتمده الفقهاء منهجاً في الفهم والاستنباط.
فلا يمكن تخطئة الفقيه إلا في أمرين: إما في مناقشة المبنى الذي اعتمده، وبيان بطلانه، أو بعدم مطابقة النتيجة لمبناه، بحيث يُلزَم بمخالفة مبناه. أما التخطئة طبقاً لما يتبناه الناقد فهو إلزام بغير لازم.
ولا يفهم من كلامنا أن الفقهاء معصومون من الخطأ، إنما هو نقد منهجي لا علاقة له بالنتائج.
3 ـ الزينة في اللغة:
بما أن شحرور يعتمد بشكل أساسي على التفسير اللغوي، خصوصاً رجوعه إلى معجم مقاييس اللغة، دون إغفال بقية المعاجم، كما ذكر في مقدمة الكتاب()، إلا أننا نجد أنه لم يطبق هذا المنهج، بل ابتعد كثيراً عنه وجاء بما هو مخالف للّغة واستعمالات العرب للفظ.
فلو عدنا إلى معنى الزينة لم نجد في معاجم اللغة ما يؤيّد ما ذهب إليه من أن المقصود بها هنا الزينة المكانية، بل لا معنى للتقسيم الذي ذكره كما سيأتي.
فقد ورد في معجم مقاييس اللغة: «الزاء والياء والنون: أصلٌ يدلُّ على حسن الشيء وتحسينه، فالزين نقيض الشين. يقال: زيَّنتُ الشيءَ تزييناً. وأزْيَنَتِ الأرضُ، وازّينَتْ، وازدانت: إذا حَسَّنَها عُشبُها»(). وسمي عُرف الديك بالزَّين، لأنه يظهره بمظهر حسن.
وقال الفراهيدي: «والزينة جامعٌ لكل ما يُتَزين به»().
ويلاحظ هنا أن الفعل «زان» فعل متعدٍّ بنفسه، فيقال: «زانه الحسنُ، يَزِينُه زَيْناً»() .
ويقال: زانه الأدبُ، وزانها القرطُ، أي جعله حَسناً، وجعلها حسناء. وسُمّي العيد بيوم الزينة «لأنّ الناس يتزينون فيه بالملابس الفاخرة»().
ويقال: كُنْ زَيناً، ولا تكن شيناً: أي ذو زين.
«قال الأزهري: سمعت صبياً من بني عقيل يقول لآخر: وجهي‏ زَينٌ‏ ووجهك شين، أراد أنه صبيح الوجه، وأن الآخر قبيحه، والتقدير: وجهي ذو زين‏ ووجهك ذو شين، فنعتهما بالمصدر كما يقال: رجل صوم وعدل»().
ويقال في العربية: «غَنِيت بجمالها عن الزينة»(). أي أنها لشدة حُسنها وجمالها لا تحتاج إلى الزينة، بمعنى أن الزينة هنا أمرٌ زائدٌ عن الذات أو مضاف إليها، وليس الذات. وإلا فلا يصح القول: استغنت المرأةُ بجمالها عن نفسها. وسميت الجارية غانية «لاستغنائها بجمالها عن الزينة»().
وفي ترتيب حسن المرأة وجمالها، أورد الثعالبي مراتب تبين أن الزينة إذا استُعملت في المرأة أفادت أمراً زائداً عن الذات أو مضافاً إليها، وليس الحسن الخلقي المتمثل بالذات كما توهم شحرور، واعتبر جسد المرأة كله زينة .
قال الثعالبي: «عن الأئمة: إذا كانت المرأة حسنة الخلق، فهي: جميلة ووضيئة. فإذا أشبه بعضُها بعضاً في الحسن، فهي: حُسَّانة. فإذا استغنت بجمالها عن الزينة، فهي: غانية. فإذا كانت لا تبالي ألا تلبس ثوباً حسناً ولا تتقلد قلادة فاخرة فهي: مِعطَال…»().
«ويقال: حَدّتْ المرأة على بعلها، وأحدّت: وذلك إذا منعت نفسها الزينة والخضاب»().
كما نجد في معاجم اللغة أن الزخرف هو الزينة، ومنه سمي الذهب زخرفاً، فقيل: بيت مزخرف.
وقد ميز العرب بين المرأة المتزينة وغيرها بقولهم: هذه امرأة عاطل، أي بلا زينة.
وخلاصة ما في كتب اللغة أن الزينة وإن كانت تستعمل في الحسن عموماً، وأنها اسم جامع لكل ما يُتزيَّن به، إلا أنها إذا استعملت في خصوص المرأة فيقصد بها ما يزيّن المرأة، من الخضاب والكحل ولبس الذهب والحليّ وغير ذلك مما هو معروف في تزيين المرأة قديماً وحديثاً. أما ما ذكره من أن الزينة تعني جسد المرأة كله فلا عين له وأثراً في معاجم اللغة ولا استعمالات العرب.
4 ـ الزينة في الاستعمالات القرآنية:
أما في الاستعمالات القرآنية فالأمر أوضح وأقرب بكثير لما ذكرناه من أنه يعني زينة المرأة المتعارفة.
قال تعالى: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُوْلى﴾() وقال: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِيْنَةٍ﴾(). قال أهل اللغة: «التبرج: إظهار المرأة محاسنها»(). وقالوا: «التبرج: إظهار الزينة وما يُستدعى به شهوة الرجال»().
ويلاحظ في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُوْلى﴾ ليس المقصود النهي عن التعرّي، فهذا ليس معروفاً في حضارة العرب إطلاقاً، لا في الجاهلية ولا الإسلام، إنما المقصود النهي عن إظهار الزينة الخارجية، أو إظهار المحاسن الخلقية المضافة للمرأة.
وقال تعالى: ﴿يا بَني‏ آدَمَ خُذُوا زينَتَكُمْ‏ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد﴾()، وهي الزينة الخارجية لا الخلقية كما هو واضح.
وقال عز وجل: ﴿ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَت‏﴾()، أي تزينت بأمر زائد على الذات، ولا يخفى ذلك من قرن الزينة بالزخرف.
وقال تعالى: ﴿ وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرين‏﴾()، فالبروج تزين السماء كما تزين الحلي وغيرها المرأة. ومثله قوله تعالى: ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزينَةٍ الْكَواكِب‏﴾() وقوله: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابيح‏﴾(). وقوله: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيْحَ وَحِفْظَاً﴾().
وقوله: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها﴾(). وقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِيْنَةً لَهَا﴾(). وقوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِيْنَتِهِ﴾()، أي بملابس فاخرة وأمثالها.
خلاصة الأمر: أن الزينة في اللغة والاستعمالات القرآنية هي اسمٌ جامع لكل ما يُتزين به، والأصل في استعماله أن يكون لما هو خارج عن الذات، ويستعمل أيضاً فيما يضاف إليها بأي نوع من أنواع الإضافة، فيقال: بنيت الدار ثم زينتُها بالمصابيح، وتزيّنت المرأةُ لزوجها، وخرج الملك في زينته، وزينةُ الرجل الحلم (أي حلمه)، والشَّعر زينة المرأة (أي شعرها)، وهكذا. وأن استعمال العرب لهذه اللفظة في المرأة لا يقصد به إلا ما هو زائد عن تكوينها الطبيعي، فيقال: تزينت المرأة بالحلي والخضاب والكحل والإثمد، ولا يقال تزينت بنفسها أو بجسدها أو ما أشبه ذلك مما هو باطل لا يستقيم معناه.
أما ما ادعاه شحرور من كون جسد المرأة كله زينة، فلا عين له ولا أثر في اللغة.
5 ـ تقسيمات الزينة وأنواعها:
قسّم شحرور الزينة إلى ثلاثة أنواع، وجعل زينة المرأة من النوع الثاني (زينة الأماكن أو المواقع) وقسّم زينتها إلى ظاهرة وخفية، وكل ذلك بلا دليل من لغة أو عقل أو غيره. وكل ما ورد في كتب اللغة هو المعنى العام للزينة ليس إلا.
بل من الغريب أنه عندما قسم الزينة إلى ظاهرة ومخفية، جعل الظاهرة الجانب الخَلقي، وهو جسد المرأة كلُّه عدا بعض المستثنيات، مما يعني أن الزينة بمعنى لبس الحلي والأقراط والتكحل وغيرها ليست من الزينة بالمرّة، مع أنها من أوضح مصاديق الزينة، وقد ذكرها في القسم الأول. بل نفى أن يكون المقصود في الآية هو المكياج وأمثاله. قال: «فإذا كانت الزينة مكانية فجسد المرأة كله زينة، والزينة هنا حتماً ليست المكياج والحلي وما شابه ذلك، وإنما هي جسد المرأة كله»(). ولم يذكر هنا ـ كالعادة ـ دليلاً واحداً على إخراج هذا النوع من الزينة (المكياج والحلي) من عموم ما ذكره اللغويون للزينة، وأنها اسم لكل ما يُتزين به، مع أنه من أوضح مصاديق الزينة عند العرب إذا ذكر في سياق الحديث عن المرأة، وهو ما لم ينكره شحرور نفسه.
ثم إن العرب تفرق في لغتها بين جمال المرأة الخَلقي، وبين زينتها وتزيينها، وقد استخدمت في الجمال والحسن الخلقي أوصافاً وألفاظاً أخرى كثيرة لا علاقة لها بالزينة، فقالوا مثلاً: امرأة عيناء، ونجلاء، وهيفاء، ودعجاء، البضّة، الرقراقة، النظرة، الغيداء، الفرعاء، وغيرها من الأسماء التي تعبر عن أوصاف خلقية(). أما الأوصاف المتعلقة بالزينة الخارجية فتقول العرب: امرأةٌ عاطل، أي لا حَلْيَ عليها(). وقالوا: لا غرو أن تحسُد الحاليَ العاطلُ. «وجيدٌ مِعطال: لا حَلْي عليه»().
فهناك فرق عندهم بين أوصاف الجمال الخلقي، وبين الأوصاف المتعلقة بالزينة الخاجية المضافة.
6 ـ معنى الجيوب:
وهي المفردة الثانية التي فسرها بشكل غريب، وبنى عليها آراءً خطيرة. وبالعودة إلى معاجم اللغة أيضاً نجد أن الجيب إما أن يكون من «جوب» أو «جيب» وكلاهما واحد. فجيب القميص: «ما ينفتح على النحر، والجمع جيوب»(). «والجَوْب: دِرعٌ تلبسُه المرأة»(). قال ابن فارس: «الجيم والواو والباء أصلٌ واحد، وهو خَرْقُ الشيء‏»(). وقال أيضاً: « فالجَيْبُ‏ جَيب‏ القميص. يقال‏ جِبْتُ‏ القميص: قَوّرتُ‏ٍ جَيْبه‏، وجَيَّبْتُه‏ جعلت له‏ جَيباً»().
كما نجد في لغة العرب مفردة «الزِّيْق» أيضاً، وتعنی «ما کُفَّ من جانب الجيب. وزيق القميص ما أحاط بالعنق»(). «يقال: جيَّبَ القميصَ وزَيَّقَهُ: جعل له جَيباً وزِيقاً، وهو ما يُكفُّ به»().
وقد كان من عادة المرأة العربية آن تشق جیبها عند المصيبة، وترفع صوتها بالصراخ، قال الشاعر:
نقعنَ جيوبهنّ عليّ حياً وأعددن المراثي والعويلا
أي شققن جیوبهن. وقالوا في قصة جديس: «فخرجت رافعةً صوتها شاقَّةً جيبها».
ولا نحتاج هنا إلى مزيد من التوغل في أعماق المعاجم اللغوية، فالجيب لا يتعدى هذا المعنى، ولم يرد في المعاجم غير هذا. أما ما ذكره شحرور من تفسير الجيوب بمناطق معينة من جسد المرأة، فهو من أعجب العجائب التي جاء بها في هذا الموضوع بالذات، فلم نجد في اللغة لا وضعاً ولا استعمالاً، لا مجازاً ولا حقيقة، من أطلق لفظ الجيب على الأجزاء التي ذكرها من جسم المرأة. كما لم نجد منهم من قال في معنى الجيب «ما كان له طبقتان، أو طبقتان وخرق» كما أنه لم يذكر لنا هل أن هذا الاستعمال من الحقيقة أو المجاز؟ وأين استعمل العرب هذه الألفاظ في المعاني المذكورة؟
من هنا نجد أن هذا التفسير لا علاقة له بلغة العرب، ولا استعمالاتهم، لا من قريب ولا من بعيد، والمعروف أن القرآن الكريم نزل بلسان العرب في زمانهم، فلا بد أن يكون موافقاً لاستعمالاتهم في الجملة، لكي يفهموا المراد منه. وبناء على ما ذهب إليه شحرور يكون القرآن الكريم قد أراد معنى ، لكنه جاء بلفظ يفهم منه السامع غير ما أريد منه واقعاً، أي أنه ذكر الجيوب وهي بلسان العرب ما يلي النحر من القميص، وأراد الفرج والإليتين وما تحت الأثداء والإبطين.
ومما يقتضي التوقف هنا، أن ما ذكره من المستثنيات لا يمكن قبوله حتى على تفسيره هو، فيا ترى كيف جعل ما بين الثديين مما يجب ستره لأنه «جيب»، فيما ترك حلمتي الثديين بلا ستر لأنهما ليستا جيبين؟ وكيف يمكن تصور ستر ما تحت الإبطين فقط، فيما يظهر سائر البدن بما في ذلك حُلَم الأثداء؟ هل أن ما تحت الإبطين مثلاً أولى بالستر من حلمتي الثديين؟
خلاصة الأمر: أن هذا التفسير لا علاقة له باللغة، ولا يمكن للذهن العربي أن ينتقل من لفظ الجيب إلى المستثنيات التي ذكرها، كما لا يوجد في القرآن الكريم ما هو بهذا المعنى مطلقاً.
ومن الجدير بالذكر، أن القرآن الكريم ذكر بعض الآيات التي تفسر الآية المذكورة بما ذهب إليه أهل اللغة من معنى الجيب: قال تعالى: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِك﴾(). وقال عز من قائل: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ في جَيْبِكَ﴾(). بمعنى أن الله تعالى، أمره أن يُدخل يده في جيب مدرعته أو قميصه، ولا يمكن حملها على ما حمله عليه شحرور من معنى.
7 ـ لزوم تخصيص الأكثر:
مما نلاحظه في قوله تعالى: ﴿وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ أو ﴿إِلّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، أن الأصل هو إخفاء الزينة، والاستثناء هو موارد الإباحة، وهذا من نوع التخصيص بالاستثناء. ولكنه وفقاً لتفسيره يكون من تخصيص الأكثر، وهو معيب وقبيح ومستهجن، ولا يليق ببلاغة القرآن الكريم.
بيان ذلك: أن تقسيمه الزينة إلى الظاهرة والخفية، جعل الظاهرة أكثر من الخفية بكثير، فكيف يجعل الزينة الخفية هي الأصل الذي يجب ستره، والزينة الظاهرة هي الاستثناء الذي يجوز كشفه؟ فكان الأليق بالبلاغة طبقاً لتفسيره أن يقال: «ولا يَستُرن زينتهن إلا ما خفي منها». أي لا يسترن الجسد كلَّه إلا الجيوب بحسب تعبيره.
8 ـ تفسير إبداء الزينة:
من عجائب ما ورد في تفسيره لإظهار الزينة أنه فرّق في التفسير بين قوله تعالى: ﴿ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إلّا لِبُعُوْلَتِهِنَّ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها﴾ حيث فسر الزينة في الأول بأنها الزينة الخفية التي ادّعى أنها (الجيوب) والثاني بالزينة الظاهرة، وهي سائر جسد المرأة، فمن أين جاء بهذا التفريق والتفصيل؟
لا يقال: إن الزينة الخفية عنده هي (الجيوب)، والظاهرة سائر الجسد، فهذا تخصيص بلا مخصص، فالزينة في الموضعين جاءت بلفظ ولحد، كما أنها مضافة للضمير، فهي بمعنىً واحد من جهة، ومضافة للذات من جهة أخرى.
والأمر الآخر: ادّعى أن الإبداء لا يكون إلا عن خفاء، قال: «فالزينة الظاهرة هي ما ظهر من جسد المرأة بالخَلق، أي ما أظهره الله سبحانه وتعالى في خلقها، كالرأس والبطن والظهر والرجلين»(). وقال في موضع آخر: «وهذا الإبداء لا يكون إلا لشيء مخفي أصلاً»(). أي أنه لم يقدّم معنىً ثابتاً للإبداء، وهل هو عن خفاء، أم يمكن أن يكون لما هو ظاهر في الأصل؟ وإذا كانت الزينة الظاهرة عنده هي ما أظهره الله من جسدها كله سوى (الجيوب) فما معنى إظهار ما هو ظاهر بالأصل؟
هذا المعنى لا يستقيم إلا إذا قلنا: إن الزينة أمر آخر غير ما ذكر، وأن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة من حيث الأصل، والإظهار استثناء من الأصل، وهو ما لا لم يُتعارف إخفاؤه من الزينة، وكذلك إظهار الزينة بالكامل أمام الزوج والابن ومن ذكرتهم الآية.
ثم إذا كانت اللغة العربية قابلة لتصور الإبداء في الحالين، أي أن يكون للظاهر في الأصل، أو الخفي، فبأي دليل جعل لكلٍّ من القولين معنىً، مع أنهما في آية واحدة وبتعبير وتركيب واحد؟
أما الذين فسروا الزينة بما هو زائد عن الذات والجمال الجبلّي، من الكحل والخضاب، أو غيره، فلم يحتاجوا لهذا التكلف، فهي في الحالين تعني الزينة عموماً، وهذه الزينة منها ما هو ظاهر في الأصل متعارف بين الناس، وهذا مسموح بإظهاره، ومنها ما هو زينة خاصة بالتبرج كلبس الحلي والمكياج المعروف في زماننا هذا وغيره، وهذا لا تظهره المرأة إلا لمن ذكرتهم الآية.
9 ـ تفسير الضرب بالسعي والعمل:
مما أفاده في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفينَ مِنْ زينَتِهِنَّ﴾ أنّ الضرب هنا بمعنى السعي والعمل، وأنّ النهي في الآية كان هو عن العمل الذي يؤدي إلى إظهار (الزينة الخفية)، «لكي لا يعلم ما يخفين من زينتهنّ»().
ولو رجعنا للآية وتأملنا في تركيبها اللغوي، لأمكننا أن نطرح مجموعة من الإشكالات، أبرزها:
الإشكال الأول: تعليل الضرب:
وحاصله: أن فهمه إياها من الناحية اللغوية خاطئ ومعكوس تماماً، فالآية تقول: لا يضربن بأرجلهن ضرباً من شأنه يجعل الآخر يعلم الزينة المراد إظهارها أو الظاهرة بالأصل. فاللام هنا بمعنى الفاء، وهي تعليل للضرب، أي لا يضربنَ فيُعلمَ ما يبدين من زينتهن بسبب الضرب. فالمنهي عنه في الآية ليس الضرب مطلقاً، إنما الضرب الذي يتسبب في إظهار الزينة، كما هو الحال في الخلاخيل التي كانت تلبسها النساء، حيث يكون الضرب سبباً في صلصلة الخلخال، بحيث يعلم السامع أن المرأة متزينة به. أما شحرور ففهم منها أن اللام تعليل لعدم الضرب، لا للضرب نفسه. فأصبح المعنى عنده: لا يضربن بأرجلهن لكي لا يعلم ما يخفين. بعبارة أخرى: لماذا لا يضربنَ؟ الجواب: لكي لا يُعلم ما يخفين. قال: «والسبب في ذلك النهي هو لكي يُعلم ما يخفين من زينتهن»().
أضف إلى ذلك أن الآية صريحة في التعليل: ﴿لِيُعْلَمَ ما يُخْفينَ مِنْ زينَتِهِنَّ ﴾ فكيف أصبح المعنى عنده: لكي لا يعلم ما يخفين؟
قد يقال: إن الإبداء إظهار بعد خفاء، وهو ما قاله شحرور في موضع آخر()، إلا أن التركيب اللغوي للآية واضح في أن العلة هي العلم بما يبدين، لا عدم العلم بما يخفين، فتأمل.
الإشكال الثاني: معنى الضرب:
استعرض شحرور ما زخرت به معاجم اللغة من استعمالات الضرب، دون فرق عنده بين أصل الضرب وضعاً، وبين استعمالاته الكثيرة في لغة العرب، وبين أسمائه، وبين الحقيقة والمجاز. ثم قفز فجأةً إلى نتيجة مفادها أن معنى الضرب في قوله تعالى: ﴿ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ﴾، هو العمل والسعي، دون أن يذكر دليلاً واحداً أو شاهداً على استعمال العرب هذا التركيب بالمعنى المذكور. فلم نعهد في كلام العرب أنهم قالوا لمن يسعى ويعمل: «ضرب برجله». إنما استبدلوا بهذا التعبير مفردة «الرَّكْض» قال تعالى: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾()، أي اضرب برجلك. والركض هو الضرب بالرجل.
وبالعودة إلى معاجم اللغة نجد أن الضرب «إيقاع شيء على شيء»(). وهو «أصل واحد، ثم يُستعار ويحمل عليه»(). فالأصل إيقاع شيء على شيء، أما الاستعارة فتحتاج إلى قرينة وعلاقة. ولم نعهد في لغة العرب استعارة أو حملاً بالمعنى الذي ذكره، مطلقاً. مع أنه ذكر أولاً أن الضرب له أصل واحد، ثم يُستعار ويحمل عليه. فيا ترى أين وردت تلك الاستعارة أو الحمل؟ وما هي القرينة التي تجعل معنى (اضرب برجلك ) هو السعي في طلب العمل والكسب؟ أما سائر الاستعمالات التي ذكرها فهي سماعية توقيفية، ولا يمكن أن نتصرف نحن بلغة القرآن فنحمل ألفاظه على ما لم يرد في لغة القوم الذين بلغتهم.
أضف إلى ذلك إلى أن مما قرره أهل اللغة أن الأصل في اللفظ هو الحقيقة، والحمل على المجاز بحاجة إلى قرينة وعلاقة وسبب، وليس في الآية ما يدعو لذلك، إنما هو ضرب الأرجل بعضها ببعض أثناء المشي، بشكل ملفت للسامع، كما هو الحال في ضرب الرجلين المحَلَّيتين بالخلخال وأمثاله.
الإشكال الثالث: النهي عن العمل
وخلاصته أن شحرور بعد فهمه السابق للآية انتهى لنتيجة مفادها أن العمل مباح للمرأة جملة وتفصيلاً، باستثناء عملين فقط: هما العرض العاري، والبغاء. وباستثناء حرمة البغاء لأنها بدليل خاص، يكون المستثنى هو التعرّي فقط، أي العمل الذي تتكسب به المرأة، ويلزم منه إظهار الزينة الخفية (الجيوب). بينما الوارد في الآية هو النهي عن الضرب، وعلى تفسيره هو للضرب بمعنى السعي والعمل، يكون العمل كلُّه منهياً عنه، وليس العكس. فالنهي عن العمل معلَّل بأنه يؤدي إلى أن يُعلَم ما يخفين من زينتهن بحسب فهمه، فيقتضي أن لا تخرج المرأة للعمل مطلقاً، لأن ذلك يؤدي إلى ظهور زينتها المخفية (الجيوب). فيكون المعنى ـ طبقاً لفهمه ـ أن المرأة منهية عن العمل للسبب المذكور، بخلاف ما انتهى إليه من إباحة جميع الأعمال لها.
أضف إلى ذلك أن التعليل هنا باطل، والمعنى فاسد، فالسعي والعمل لا يؤدي إلى إظهار (الجيوب) كما هو معلوم.
الإشكال الرابع: تحريم البغاء:
من الغريب حقاً أن يجعل شحرور البغاء من الأعمال المخالفة للحجاب، باعتبار أن هذا العمل يؤدي إلى إظهار الزينة الخفية (الجيوب) مع أن البغاء موضوع مختلف، ترتَّب عليه حكم مختلف، ولا علاقة له بالستر والحجاب. بعبارة أخرى: أن المحرَّم هنا هو البغاء نفسُه كممارسة عملية، لا أنه محرم من جهة إبداء العورة بحيث نتصور أن ممارسته لو حصلت بلا إبداء العورة فهو مباح! أو أن تجارة الجنس إذا لم تؤدِّ إلى إظهار الزينة الخفية (الجيوب) فهي مباحة، وهو ما يقتضيه تفسير شحرور. إنما هو عمل منهيٌّ عنه ومحرم في نفسه جملةً وتفصيلاً. بل كيف يسوغ لمسلم قرآني أن يدّعي أن الزنا محرم لأنه يؤدي إلى إظهار العورة، فيدخل في باب الحجاب؟ وماذا لو عملت المرأة بعمل لا أخلاقي دون أن يؤدي إلى إظهار الجيوب الخاصة، مما هو قريب من البغاء والزنا، كما لو عملت في أفلام الإثارة الجنسية وهي عارية دون الجيوب؟ هل يقال: إن هذا ليس بغاءً لأنه عمل لا يؤدي لإظهار (الجيوب) كما هو مقتضى تفسير شحرور؟
فالبغاء إذن خارج تخصصاً من موضوع الحجاب، ولا علاقة له لا بإظهار الزينة الخفية ولا الظاهرة.
الإشكال الخامس: تخصيص الأكثر
طبقاً لكلام شحرور في كون العمل المنهي عنه هو التعري الكامل فقط، بعد استثنائنا للبغاء وخروجه تخصصاً من البحث، يكون معنى الآية هكذا: لا يجوز للمرأة أن تعمل، إلا في التعليم والطب والطيران والمصارف والرقص والغناء والسباحة وممارسة الرياضات المختلفة… إلخ، لأن العمل في التعرّي يؤدي إلى إظهار الزينة الخفية وهي الجيوب. وهذا تخصيص للأكثر بالاستثناء، وهو قبيح جداً، بل ممتنع بحق القرآن الكريم، فهو السنام الأرفع في البلاغة والبيان ودقة التعبير.
الإشكال السادس: الخمار لغةً واصطلاحاً
مما نجده من التناقض العجيب، أنه عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَّ﴾ ذهب إلى أن الخمار كل ما يختمر به، أي يُتغطى به، وليس خمار الرأس فقط. أي أنه أخذه بمعناه اللغوي لا الاصطلاحي. وأن الله تعالى أمر المؤمنات بتغطية الجيوب التي هي الزينة المخفية خلقاً(). لكنه بعد ذلك بعشر صفحات أكد أن الخمار المقصود في الآية هو غطاء الرأس فقط، والمقصود هو المعنى الاصطلاحي، وأن المرأة العربية كانت تلبس الثوب الطويل والخمار على الرأس ليقيها الحر، وأن المرأة العربية المسلمة بعد نزول الآية أبقت على لباسها السابق، «لكنها وجدت إمكانية إظهار جيوب الثديين من فتحة الصدر في ثوبها الخارجي، فضربت على صدرها بخمار رأسها»().
فبينا هو يقرر أن الخمار ليس مختصاً بخمار الرأس، وأن المقصود بالآية هو تغطية الجيوب بالخمار، وهي الزينة المخفية، عاد ليؤكد أن الخمار هو غطاء الرأس، وأن المرأة كانت تضربه على صدرها بعد نزول الآية، وهو عين ما قاله المفسرون في تفسير الآية، وما تساعد عليه اللغة والعرف العربي عند نزول النص.
فقد كانت نساء الجاهلية يلبسن المقانع، أي الخُمُر، ويُلقينها على ظهورهن، فتبدو نحورُهنّ، فأمرهن الله تعالى أن يلقينها على صدورهن لتغطية النحور.
وعليه يكون لشحرور رأيان مختلفان: أحدهما موافق لما عليه اللغة وأهل التفسير، والآخر مخالف لهما. وهكذا ينسى ويتخبط من لا يمتلك منهجاً محدداً في أي علم من العلوم.
وقد أقرّ شحرور ضمنياً أن المرأة العربية كانت قد فهمت الآية بخلاف ما يراه، وهو أنها كانت مأمورة بإسدال الخمار على الصدر لتغطية النحر، وهذا هو الملائم للخطاب القرآني الذي جاء بلسان العرب، ففهمته المرأة العربية بسرعة وعفوية، وغاب معناه عن شحرور.
خلاصة البحث:
بعد هذه الجولة في العرض والتحليل والمناقشة انتهينا إلى النتائج التالية:
1 ـ عدم وجود منهج محدد لشحرور في التفسير، ففي الوقت الذي يدّعي أنه يتعامل مع النص وفق مبادئ وأساليب اللغة العربية واستناداً لمعاجم اللغة، تجد أنه يأتي بالمعاني العجيبة التي لم ترد في أي معجم من معاجم اللغة، وليس لها شاهد من القرآن أو الشعر العربي، أو أمثال العرب. فقد فسر الزينة بجسد المرأة كله، وجعل الزينة الخفية هي الفرج، والإليتين، وما بين الثديين، وتحت الإبطين فقط، أما الباقي فهو من الزينة الظاهرة، كما فسر الجيوب تفسيراً عجيباً لم يسبقه إليه سابق من أهل اللغة ولم يلحقه لاحق.
2 ـ لم نجد في كتابه من الهوامش التوثيقية إلا النَّزْر اليسير، فحتى نهاية الفصل الأول الذي تجاوز 760 صحيفة، لم يرد فيه سوى 21 هامشاً معظمها إحالات على كتبه الأخرى أو بعض الكتب اللغوية المختصرة. أما الموضوع الذي تناولناه في البحث ـ لباس المرأة والرجل وسلوكهما الاجتماعي ـ فلم يرد فيه توثيق واحد البتة.
3 ـ محاكمة الفقهاء ممن يتبنون منهج محورية الكتاب والسنة، وتخطئتُهم، مع أنه بلا منهج، أو على فرض أن لديه منهجاً، فهو مختلف عن منهجهم، ولا يمكن محاكمتهم بموجبه. أضف إلى ذلك أن ما وقع فيه من أخطاء لغوية جسيمة لم يقع فيه الفقهاء في مرحلة البحث اللغوي، وهي الجهة المشتركة بينه وبينهم، فكانوا أقدر منه بكثير على فهم اللغة وأساليب العرب في الكلام.
4 ـ الضعف الواضح في اللغة العربية: فمن ذلك الخلط بين المعنى اللغوي والاصطلاحي في لفظ الخمار وغيره، وبين الوضع والاستعمال في مادة الضرب وغيرها، والأخذ بأحد الأصلين وترك الآخر في مادة «غضض»، فلهذه المادة أصلان: أحدهما الكفّ، والآخر الطراوة، فأخذ بالأصل الثاني مع أن المراد هو الأصل الأول، إذ لا معنى للطراوة في غض البصر، إنما هو الكف.
بل عدم تمييزه بين (نون النسوة) و (علامة الجمع للمؤنث) في تفسير قوله تعالى: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ حيث قال: «ونون النسوة هنا للتابعية لا للجنس، فإذا كانت للجنس فهذا يعني أن هناك نساء النساء، وهذا غير معقول إذا كانت نساؤهنّ تعني الإناث». وقد فسر النساء بمعنى جمع «النسيء» أي المستجد المتأخر، وليس جمع امرأة، والمقصود به عنده الرجال الذين يأتون فيما بعد من الأحفاد وأبناء الإخوان والأخوات. مع أن اللغة لم يرد فيها هذا اللفظ على أنه جمع نسيء. ولو فُرض فلا يستقيم المعنى على ما أراد، ويقتضي أن يكون جمع «مُنسَأ» وهو اسم المفعول من «أنسأَ». وعلى جميع التقادير لا يستقيم المعنى لغوياً على ما أراد.
والملفت أيضاً أنه رفض إضافة الشيء لنفسه، بقوله: «فهذا يعني أن هناك نساء النساء، وهذا غير معقول إذا كانت نساؤهنّ تعني الإناث»، وفاته أن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، وهو وارد في كتاب الله تعالى وفي لغة العرب في أفصح كلامهم. قال تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾(). فأضاف الرجال إلى الضمير، المتصل بعلامة جمع المذكر. وكذلك قال عز وجل: ﴿وَاسْتَشْهِدُوْا شَهِيْدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾(). فلا مانع (عقلاً) ولا لغةً أن يقال: نسائهنّ، بمعنى النساء المصاحبات لهن ،أو نساء أهل دينهن من المؤمنات، أو الحرائر في، مقابل الإماء المذكورات فيما بعد. فصحّت الإضافة لاختلاف المعنى بتخصيص اللفظ الثاني بوصف أو إضافة.
ولو تتبعنا ما ورد في كتابه من الإخفاقات اللغوية في الاشتقاق والإعراب وفهم التراكيب لاحتجنا إلى تسويد الكثير من الصفحات.
4 ـ مما قرره شحرور أن نساء العرب في الجاهلية لم تكن تعرف العُري()، وأن اللباس (القومي) للمرأة العربية آنذاك هو الثوب الطويل والخمار على الرأس، مما يعني أن هذه الآيات ناظرة إلى إقرار هذا اللباس وتعديله بالشكل الذي يغطي الصدر ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى‏ جُيُوبِهِنَّ ﴾، لكنه عند تفسيره الآية لم يرتض أن يكون الخمار اسماً لما كانت المرأة في الجاهلية تضعه على رأسها. وهو تناقض عجيب منه.
5 ـ الصورة النهائية لحجاب المرأة الذي انتهى إليها شحرور لا تعني إلغاء الحجاب بالمطلق فحسب، إنما تعنى إلغاء اللباس برمته، وطبقاً لهذه الصورة يمكن للمرأة المسلمة المتدينة القرآنية أن تسير في الطرقات بملابس السباحة أو أقل منها، فلا تغطي سوى العورة الخاصة وبعض الصدر، وتظهر سائر جسدها حتى الأثداء، لأنها ليست من الجيوب بحسب نظره. بل بإمكانها أن تدخل المسجد مع الرجال لتصلي أمامهم دون أي مانع ديني، لأن الله لم يحرم عليها الاختلاط. وهذه الصورة يأنفها الطبع البشري والفطرة السليمة في جميع الديانات والأعراف والأمم والحضارات بما في ذلك الحضارة الغربية، فلا نجد في العالم من الناس الأسوياء من يتقبل ظهور ابنته أمامه عارية بالكامل بحيث يرى منها كل شيء حتى العورة الخاصة التي أسماها شحرور بالجيوب أو الزينة الخفية.
أضف إلى ذلك أن هذه الصورة تعتبر من أوضح دواعي الفساد الأخلاقي وانتشار الجريمة في المجتمع، فنحن نرى أن المجتمعات الإنسانية مع كونها لم تصل إلى هذه المرحلة من الصورة (الشحرورية) للمرأة، إلا أن انتشار الزنا والاغتصاب والخطف والقتل بلغ أرقاماً مروعة، فما بالك لو سمح للمرأة أن تتخلى عن لباسها بالكامل، أو أن تكتفي بقطعتي قماش صغيرتين لتغطية (الجيوب) كما يسميها، ثم تختلط بالرجال لتعمل في الرقص والغناء وتمارس أنواع الأعمال والرياضات وهي على هذه الحالة؟ فإن كانت هذه هي الفضيلة التي جاء بها الإسلام، بل جميع الديانات والأعراف، وما دعت إليه الفطرة الإنسانية، فلا يبقى معنى للرذيلة بعد ذلك.
أضف إلى ذلك أن هذه الصورة القبيحة المفترضة ترسّخ الاستهانة والاستخفاف بالمرأة والحطّ من شأنها، فمن الأمور الفطرية لدى الإنسان أن يحترم المحتشم من الرجال والنساء، وينظر لغيرهما باستخفاف ودونية، وها نحن نرى في جميع أنحاء العالم أن النخبة المتقدمة من النساء والرجال يظهرون بمظهر محتشم، بعيداً عن نظرتهم للأديان وحدود الحجاب، ولم تجد الدعوات للتعري الكامل صدىً حتى في الغرب والعالم المتحرر، إلا في نطاق محدود جداً. بل جرت العادة في أغلب الأعراف في العالم، لا سيما في المجتمعات المحافظة على احترام المرأة المحتشمة. وبالتالي لا يمكن أن تتناسب هذه الصورة مع روح الإسلام بل كافة الشرائع السماوية، ولا مع الأعراف والتقاليد، ولا مع الفطرة الإنسانية بشكل عام، ولا الحدّ الأدنى من الخلق الإنساني.
والحمد لله رب العالمين.

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم
1 ـ ابن فارس: أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الأولى: 1404 هـ.
2 ـ ابن منظور: محمد بن مكرم، لسان العرب، دار الفكر للطباعة والنشر ـ دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة: 1414 هـ .
3 ـ الثعالبي: عبد الملك بن محمد، فقه اللغة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى: 1414 هـ .
4 ـ الخوئي، أبو القاسم الموسوي، البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة: 1395 هـ ـ 1975م.
5 ـ الزمخشري: محمود بن عمر، أساس البلاغة، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى: 1979م.
6 ـ الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة، عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى: 1414 هـ .
7 ـ الفيومي: أحمد بن محمد، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، مؤسسة دار الهجرة، قم، الطبعة الثانية: 1414 هـ .
8 ـ علي أحمد ناصح، وفاء نصر الله، القرآنيون وأهم شبهاتهم: دراسة نقدية، جامعة قم.
9 ـ ابن عادل الحنبلي، اللباب في علوم الكتاب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى: 1419 هـ ـ 1998م.
10 ـ أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الأولى: 1400 هـ .
11 ـ الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى: 1405 هـ ـ 1985م.
12 ـ الراغب الإصفهاني: حسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، دار القلم ـ الدار الشامية، بيروت ـ دمشق، الطبعة الأولى: 1412 هـ .
13 ـ الزبيدي: محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى: 1414 هـ
14 ـ الفراهيدي: الخليل بن أحمد، كتاب العين، دار الهجرة، قم الطبعة الثانية: 1409 هـ .
15 ـ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الشعب، القاهرة.
16 ـ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران الطبعة الرابعة: 1407 هـ .
17 ـ خادم حسين إلهي بخش، القرآنيون وشبهاتهم حول السنة، مكتبة الصديق، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية: 1421 هـ ـ 2000 م.
18 ـ د. جمال بن محمد بن أحمد هاجر، القرآنيون العرب وموقفهم من التفسير، دراسة نقدية، دار التفسير، المملكة العربية السعودية، جدة، الطبعة الأولى: 1436 هـ ـ 2015م.
19 ـ محمد شحرور، الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، سوريا.القرآن الكريم
1 ـ ابن فارس: أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الأولى: 1404 هـ.
2 ـ ابن منظور: محمد بن مكرم، لسان العرب، دار الفكر للطباعة والنشر ـ دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة: 1414 هـ .
3 ـ الثعالبي: عبد الملك بن محمد، فقه اللغة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى: 1414 هـ .
4 ـ الخوئي، أبو القاسم الموسوي، البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة: 1395 هـ ـ 1975م.
5 ـ الزمخشري: محمود بن عمر، أساس البلاغة، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى: 1979م.
6 ـ الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة، عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى: 1414 هـ .
7 ـ الفيومي: أحمد بن محمد، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، مؤسسة دار الهجرة، قم، الطبعة الثانية: 1414 هـ .
8 ـ علي أحمد ناصح، وفاء نصر الله، القرآنيون وأهم شبهاتهم: دراسة نقدية، جامعة قم.
9 ـ ابن عادل الحنبلي، اللباب في علوم الكتاب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى: 1419 هـ ـ 1998م.
10 ـ أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الأولى: 1400 هـ .
11 ـ الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى: 1405 هـ ـ 1985م.
12 ـ الراغب الإصفهاني: حسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، دار القلم ـ الدار الشامية، بيروت ـ دمشق، الطبعة الأولى: 1412 هـ .
13 ـ الزبيدي: محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى: 1414 هـ
14 ـ الفراهيدي: الخليل بن أحمد، كتاب العين، دار الهجرة، قم الطبعة الثانية: 1409 هـ .
15 ـ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الشعب، القاهرة.
16 ـ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران الطبعة الرابعة: 1407 هـ .
17 ـ خادم حسين إلهي بخش، القرآنيون وشبهاتهم حول السنة، مكتبة الصديق، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية: 1421 هـ ـ 2000 م.
18 ـ د. جمال بن محمد بن أحمد هاجر، القرآنيون العرب وموقفهم من التفسير، دراسة نقدية، دار التفسير، المملكة العربية السعودية، جدة، الطبعة الأولى: 1436 هـ ـ 2015م.
19 ـ محمد شحرور، الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، سوريا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *